تماما كما أثار كتابه "التصوير الديني في الإسلام" جدالا واسعاً عند صدوره أدي لمنع الأزهر له ، أثار صدور "موسوعة التصوير الإسلامي" متضمنة فصلا عن التصوير الديني جدلا شد انتباه الكثيرين وهي الموسوعة التي صدرت مؤخراً عن مكتبة لبنان وراجعها د.خالد عزب.. فهكذا هي إصدارات الدكتور ثروت عكاشة تثير دائما بصدورها اهتمام آراء المتخصصين و القراء العاديين. لذا حرص هذه المرة د.عكاشة علي الحصول مسبقا علي إجازة من الأزهر منعا لتكرار ما حدث عام 1978، وفي المقابل اشترط الأزهر علي المؤلف حجب وجه وقسمات النبي صلي الله عليه وسلم وباقي الأنبياء وصحابة الرسول من اللوحات المنشورة، وهو ما تم فعلا عند طباعة الكتاب. سبعمائة و أربع وخمسون لوحة تنتظم فيها دراسة التصوير الإسلامي في هذه الموسوعة الفريدة الرائعة خلق من التصوير السابق ذكره والتي استفاض عنها المؤلف بوصف سردي تفصيلي لها . لذا نري المؤلف يفرد فصلا في كتابه عالج فيه قضية تحريم التصوير في الإسلام خلص فيه إلي أن ما جاء بالتحريم من أحاديث الرسول عليه الصلاة السلام كان مشروطا بالا يكون فيه ما يغري بالشرك بالله أو ما يشغل العابد عن عبادته أما ما جاء في الأثر عن النبي صلي الله عليه وسلم من إعطاء تصريح بتحريم أو إباحة ، فلقد رأي فيه المبيحون دليلهم علي جوازه لما ينميه التصوير في الإنسان من ترقيق المشاعر وجميل القيم ، في حين نجد فريقا من الفقهاء ينحازون إلي التحريم دون قيد أو شرط ، نجد غيرهم قد أباحه بل منهم من كان يمارس هذا الفن مثل الفقيه الإمام أبي العباس احمد بن إدريس القرافي الذي زاد علي إباحته فن النحت والتصوير واشتغاله به. غرق ثروت عكاشة كما غرق الكثيرون في التركيز في دراساتهم عن التصوير الإسلامي عن المخطوطات المتعلقة بقصص الحب والعشق والأساطير و ألموا إلماما سريعا عابرا بصور المخطوطات العلمية غير أن ما كشف عنة النقاب في السنوات الأخيرة من مخطوطات ودراسات أجريت عليها دل علي وجود سيل غير محدود من التصاوير العلمية التي تستحق الدراسة، خاصة المخطوطات الطبية ولنا وقفة في هذا علي دراسة أجريت عن التصوير المتعلق بطب العيون في المخطوطات الإسلامية في كلية الآثار بجامعة القاهرة ،قدمت رؤية واسعة عن هذا الطب من خلال التصاوير . ابرز الدكتور عكاشة في موسوعته سمات التصوير الإسلامي حيث يختلف النهج في التصوير الإسلامي عنه في التصوير الكلاسيكي، اليوناني ،الروماني فهو لا يلجأ إلي الإيهام و يغفل عن قواعد المنظور التي ترمز إلي العمق كما يطرح استخدام الظلال .كان إهمال المصور المسلم لقواعد المنظور عن قصد إذ لم يكن يؤمن كثيرا بالواقعية إلا حين تصويره للمخطوطات العلمية هذا إذا كان ينقل عن أصل علي نحو ما نري في لوحة الكرمة ( بكتاب الحشائش و خواص العقاقير لديسقوريدس 1299 ميلادية) وهي مصورة بأسلوب طبيعي فيه إبداع خارق و تكشف عن تفاصيل النبات الحقيقية من جذوره حتي أطرافه وقد لونت كل ورقة بلون خاص يميزها عن جاراتها، و رسمت العروق واضحة في أغلب الأوراق، و ظهرت جميع أجزاء النبات سابحة في الفضاء متحررة من جذورها من الأرض. تبدو هذه اللوحة مطابقة للأصل البيزنطي حتي إنها لو لم تكن مرسومة علي صفحات المخطوط العربي لظن المرء أنها صورة يونانية أصيلة مقحمة. أما إذا لم يكن ثمة أصل كما يذكر ثروت ينقل عنه المصور المسلم كما يلجأ إلي التحوير، وأجمل سمات التصوير الإسلامي في نقاط خمس : أولاها: احتواء الصورة علي عدة مفردات يتم جمعها في غير اتساق. بحيث يبدو كل منها في منظور مختلف. كذلك يستدعي انتباهنا أن الحيز الذي تشغله الصورة لا يتفق و المنطق، حيث تظهر الإبل والخيل وكأنها وافدة من لا مكان. ثانيها: انقسام كل صورة إلي موضوعات مستقلة يكاد كل منها يغني بذاته، ثم هي إلي ذلك تكون في مجموعها شكلا متكاملا. ثالثها: أخذه بمبدأ أن تصغير الموضوع المصور لا يجوز أن يبعده عن تقاليد تقنية تصوير المنمنمات. رابعها: تحاشي المصور في الأكثر لكل ما يوحي بالعربدة أو المجون وعدم إلقائه بالا للوجدانيات، إذ كان ديدنه التسلية لا الإثارة، فلقد كان التصوير الإسلامي في خدمة البلاط أولا، أو بمعني آخر في خدمة قصور الملوك التي كانت تعد بيوت المسلمين عامة، يسعي إليها الشاكي و ذو الحاجة و صاحب المظلمة إلي غير ذلك من مختلف الطبقات. من أجل هذا كان لابد لتلك القصور أن تبدو أقرب إلي الجد منها إلي العبث و المجون. لهذا كانت التصاوير التي تزين بها جدران القصور والمخطوطات المصورة التي في حوزة ذوي الجاه والمسموح بالاطلاع عليها أقرب إلي التسلية منها إلي الإثارة. هذا إذا استثنينا الأجنحة الخاصة بالحريم، فلا شك أنها كانت علي صورة أخري غير تلك الصورة. أخيرا ثمة سمة أخري في التصوير الإسلامي تستحق لفتة هي جموده وتقليديته و إغفاله الانفعالات الوجدانية والنفسية التي تتراءي علي الوجوه إلا في القليل. علي أنه استرعي انتباه ثروت عكاشة أن مخطوطة جامع التواريخ لرشد الدين 1310 ميلادية ومخطوطة شاهنامة ديموط 1330 ميلادية تكادان تنفردان بتطبيق مبدأ التعبير الانفعالي. و ما من شك كما يري ثروت عكاشة أن الروح العربية كانت في جميع الأزمنة بارزة جلية، فكانت بمثابة الأساس أو القاعدة التي قام عليها الفن الإسلامي من خلال (رسالة الإسلام) و لغة القرآن و طراز الكتابة العربية التي غدت أوضح سمة للفن الإسلامي، و أفضت إلي ظهور تنويعات لا نهائية للزخارف المجردة و إلي طراز للتجريد الخطي ينفرد به الفن الإسلامي، و أفضت إلي ظهور تنويعات لا نهائية للزخارف المجردة و إلي طراز للتجريد الخطي ينفرد به الفن الإسلامي، و يستحيل فصله عن أصوله العربية. لقد ولع العرب بالرياضيات وعلوم الفلك و تبحروا في معارفهم التي ورثوا أصولها عن الرومان، وما لبثوا أن طبقوا هذه المبادئ الهندسية علي الفن بعد أن أضافوا إليها حسهم الفطري والصمت، أو النور و الظلام، أو القوة و الضعف، أو الضغط و اللين، أو القصر و الطول، أو الإسراع و الإبطاء، أو التوتر و الاسترخاء إلي غير ذلك، فإن هذا الإيقاع يتمثل في العلاقة بين الجزيئات بعضها ببعض، وبين الجزء الواحد وباقي أجزاء الأثر الفني أو الأدبي، و ذلك في صيغة حركية منتظمة سواء في شكلها التصويري أو الأدبي أو الموسيقي، وطبقوه ببراعة لا تباري في كل صيغهم الفنية المتكررة المعقدة التي نلمسها في زخارفهم. يتميز الفن الفارسي باتجاه شاعري غنائي وتيار ميتافيزيقي رائع يفضي عاطفيا و روحانيا إلي صوفية بديعة بلا نظير، ولا غرو فقد قامت معظم مدارس التصوير الإسلامي في إيران فوق صرح الأدب الفارسي، فإذا بين أيدينا إيقونوغرافية نسيج وحدها خلابة آسرة، أزهرت خلال القرون الرابع عشر و الخامس عشر و السادس عشر في أنحاء العالم الإسلامي كله. يري ثروت عكاشة أن العنصر التركي في الفن الإسلامي يقوم أساسا علي أفكار تجريدية متأصلة طبقها أتراك أواسط آسيا علي الأشكال الفنية التي صادفوها خلال رحلتهم الطويلة من أعماق آسيا حتي بلغوا مصر، و لقد حملوا معهم فيما حملوا تقاليد راسخة للتصميمات الفنية التشخيصية و غير التشخيصية من شرق آسيا إلي غربها، خالقين بدورهم إيقونوغرافية تركية متميزة. ونستطيع أن ندرك كما يذكر ثروت عكاشة أن ندرك أهمية العنصر التركي في الحضارة الإسلامية إذا تذكرنا أن العالم الإسلامي كانت تحكمه و تسيطر عليه عناصر تركية منذ القرن العاشر حتي القرن التاسع عشر. و من هنا يصعب طرح أثر الفكر التركي والذوق التركي علي الفن الإسلامي. علي الرغم من أن هذه العناصر الثلاثة التي تشكل الفن الإسلامي يمكن تمييز كل منها في بعض العصور مستقلة بذاتها إلا أنها جميعا تسهم بنصيب متساو في تطور الفن الإسلامي، فهي في أغلب المراحل تتضافر و تتكامل حتي يتعذر التفرقة بينها. هكذا تشترك أقاليم العالم الإسلامي كله في سمات فنية جوهرية تجرها إلي وحدة (إثنية) و جغرافية تتجاوز الاتجاهات القومية و لا يوازيها في تاريخ الحضارة الإنسانية إلا مثيلتها في العالم الروماني القديم، حين كانت الروائع الفنية الرومانية في مختلف الأقاليم والأمصار تجمع بينها وشائج قربي متينة، بغض النظر عن مصدرها أو البيئة التي أنتجت فيها، و كانت هذه الروابط من القوة بحيث يمكن القول بأن العالم الروماني كانت تسوده لغة فنية مشتركة (كويني) كما كانت تدعي في تلك العصور. .. أخيرا فإن هذه الموسوعة ستظل لا شك لسنوات طويلة قادمة العمل الموسوعي الرئيسي للتصوير الإسلامي، و هي تجعلنا في لهفة لجديد ثروت عكاشة، و هو عن "فنون الشرق الأقصي الهند و اليابان والصين".