لست من عشاق الدراما التركية التي غزت أسواق العالم وإستأثرت بقلوب الجمهور المصري والعربي، ولكني لا أستطيع أن أنكر تقديري لهذه القدرة علي إحكام الصنعة والذكاء التجاري، ليستمر النجاح وتدور عجلة الإنتاج والتوزيع، ولتنجح تركيا في أن تجتاح بالفن والثقافة أراضي أكثر بكثير من تلك التي فقدتها بنهاية الإحتلال العثماني، ولكن يبدو أن إخواننا الأتراك لم يكتفوا بهذا القدر، بل راحوا يواصلون جهودهم بذكاء وتضافر مؤسسات مختلفة من أجل كسب مساحات أكبر وجماهير أكثر، فعلي الرغم من خبراتي السابقة في العمل الثقافي، سواء كملحق ثقافي بالخارج أو كمدير لقصر السينما في مصر أو غيرهما من المسئوليات التي توليتها، لم أشهد أسبوعاً ثقافيا يحظي بكل هذا القدر من النجاح والإقبال والتفاعل الجماهيري الذي حققه الأسبوع السينمائي التركي الذي أقيم مؤخرا بمركز الإبداع، ولا أعتقد أن هذا النجاح وليد الصدفة أو أن اختيار الأفلام تم بطريقة عشوائية أو من أجل إرضاء فنان مسئول أو نجم قد يتحمس للحضور، بل انني ألمح في تنوع الأفلام وأساليبها وإتجاهاتها وتاريخ عرضها ما هو أبعد من مسألة البحث عن النجاح قصير النظر، فهو قد يكشف عن رغبة حقيقية جادة في فهم ذوق جمهور السينما في مصر بعد أن تعرفوا تماما علي ذوق جمهور المسلسلات، وهو ما يؤكده استقبال دور العرض المصرية لأول فيلم سينمائي تركي بعنوان (وادي الذئاب) فور انتهاء الأسبوع الثقافي، عسل تركي كان عرض فيلم (عسل) هو في رأيي الاختيار الحتمي، فهذا الفيلم الرائع هو أحد مفاخر السينما التركية الحديثة، ليس فقط لأنه حائز علي جائزة الدب الذهبي لمهرجان برلين كأحد أهم المهرجانات الدولية، ولكن لأنه بالفعل من أفضل وأقوي ما قدمته السينما في العالم خلال السنوات الأخيرة، وقد تمكن المخرج سامح كوبلان أوغلو من أن يكشف خلاله عن أصالته كمبدع وأن يقدم ما يمكن اعتباره فيلما رائدا يستعصي علي التصنيف ولكنه يحقق متعة فنية غير مسبوقة في قصته المؤثرة عن بحث طفل عن والده في غابة مليئة بالخطر. في أجواء مفعمة بالسحر والجمال والإثارة تخوض هذه الرحلة الرائعة وتتوحد تماما مع شخصية الطفل، وبقدر ما تنجذب لهذه القصة المحكمة الجذابة بقدر ما تتولد لديك أسئلة وجودية وتغوص في تساؤلات حول أسرار الحياة، ولا شك أن خبرة مشاهدة فيلم عسل تضفي تأثيرا عميقا علي جمهوره وتترك في الذاكرة مخزونا من الصور السينمائية، فهو فيلم يعتمد علي لغة سينمائية خالصة ويكاد يصل فيه مخرجه إلي هذه الحالة التي تجعلك تتساءل في انبهار هل الفكرة هي التي تولدت عنها هذه الصورة أم أن الصورة هي التي أوحت لصاحبها بالأفكار. في فيلم (البعد) لنوري بيلجا جيلان تتغلغل الدراما إلي قلب وروح الشخصيات.. حالة من التعرية السينمائية للنفس البشرية تكاد تضارع المقدرة الأدبية لكبار الكتّاب في هذا المجال.. تتصاعد الدراما من خلال الحوار المسكوت عنه بين الشخصيتين الرئيسيتين محمود القادم من الريف إلي إسطنبول ومضيفه المصور يوسف الذي يحلم بالسفر إلي أماكن بعيدة، وبين هذين العالمين يكتشف الكثير عن الواقع الاجتماعي للبلاد، إنها تجربة سينمائية مهمة عن التواصل الإنساني وعن فكرة الهجرة المحلية أو الخارجية من أجل تحقيق الأحلام،ولكن هل يمكن أن تتحقق الأحلام قبل فك طلاسم البشر والنفاذ إلي قلوبهم.. إيقاع متقن وأداء تمثيلي رفيع من مجموعة الممثلين تحت قيادة مخرج يحرص علي تحقيق أفضل أداء للممثل. ألوان سينمائية أما (نقطة) للمخرج درويش زعمي فهو فيلم مصور بالكاميرا الرقمية وحصل علي جائزة مهرجان القاهرة لأفلام الديجيتال منذ عامين، وهو تجربة شديدة الخصوصية في الربط بين أسلوبية فن الخط وأسلوبية بناء الفيلم ككل بنفس الاستقامة والتدفق.. لا توجد حكاية بل حالة إنسانية فريدة في الشعور بالذنب من إثم جرم.. ومتعة فوق العادة مع موسيقي تصويرية تشارك في الحدث والبطولة لمظلوم تشسيمن، وفي فيلم (العالمي) تلتقي مع كوميديا سوداء شديدة السخرية حول فرقة موسيقي عسكرية في ظل الأحكام العرفية للجيش.. حيث تتابع في جو من المرح والتوتر علاقة غير عادية بين الفرقة والقائد العسكري، وتتوالي الأحداث والمفارقات الساخرة وتتقلب أحوال الفرقة في تفاعلها مع القائد العسكري ومع الظرف السياسي والاقتصادي الصعب. وتأتي باقي الأفلام بأساليب بسيطة وتقليدية وتعبر عن قضايا اجتماعية لا تخلو من جوانب إنسانية وهي معظمها ذات طابع جماهيري وحققت نجاحا كبيرا في شباك التذاكر التركي، ففيلم (الملاك الابيض) حاز علي أعلي نسبة مشاهدة في عام عرضه 2007، ولكنه متميز فنيا أيضا فقد حصد العديد من الجوائز كما حقق تأثيرا كبيرا إلي حد إضافة مادة قانونية للدستور علي إثره تتعلق بعناية المسنين والمحتاجين، ويتواصل الهم الاجتماعي في فيلم (أبي وإبني) ولكن القضية فيه تتسع لتشمل حوارا بين ثلاثة أجيال في ظرف سياسي شديد الدقة، وهو عمل شديد التميز والإتقان لمخرجه ومؤلفه تشاجان إبرماك. ربما يأتي اختيار فيلم (محسن بك) من إخراج يافوز طورغول كأحد أنجح الأفلام في تاريخ السينما التركية، ولكنه يعد في رأيي أضعف الأفلام المختارة فهو تقليدي في فكرته وأسلوب معالجته فضلا عن إنه الأقدم زمنيا ضمن المجموعة فتاريخ عرضه يرجع إلي عام 1987. تحدي التليفزيون ويعد فيلم (فيزيون تيلي) مفاجأة هذا الأسبوع بالنسبة لي وهو في رأيي تحفة سينمائية بكل المقاييس.. والغريب أنه حظي بأعلي نسبة مشاهدة بين كل أفلام الأسبوع، ويبدو أن مسئولي البرنامج كثفوا الدعاية بالنسبة له لإدراكهم قيمته والمردود الكبير المتوقع له، وفيزيون تيلي من تأليف وإخراج يلماز أردوغان وتدور أحداثه عن وصول أول تليفزيون في عام 1974 إلي قرية نائية مهملة جنوب شرق تركيا، ويتناول الفيلم صدي هذا الحدث وتأثيره علي الأهالي والصعوبات التي تواجه المسئول عن التشغيل حتي يتمكن من ذلك بعد جهد بالغ وبمحض الصدفة.. ولكنك من خلال قصة التليفزيون كحدث رئيسي تتعرف علي العديد من القصص الإنسانية المتنوعة والحكايات المؤثرة عن هذا العالم من البسطاء وتفاصيل حياتهم المثيرة للدهشة والضحك، وهو فيلم لا يستطيع أن يحققه إلا مخرج مؤلف لأن الأفكار تتفاعل مع الصورة بشكل بديع، كما ان الأحداث والشخصيات تبدو وكأنها تستند في الغالب إلي أصول حقيقية،فالفيلم أقرب لحالة متدفقة من المشاعر والأحاسيس والذكريات عن حياة قرية بأكملها، كما أنه يمثل في صميم مضمونه وبحسابات درامية بارعة إدانة للرجعية والتخلف وابتهاجا بانتصار التقدم والتكنولوجيا وتأكيدا علي حتمية هذا الانتصار.. يتمكن الفيلم عبر البناء الدرامي والسينمائي من أن يجعلك تعيش داخل هذه القرية الجبلية وأن تتنسم أجواءها وتعاشر أهلها وكأنك واحدا منهم، أنت بالفعل تعيش داخل هذا العالم من خلال حركة الكاميرا الرشيقة والزوايا التي تحيط بالمكان والشخصيات من كل جانب، ومن خلال اقترابك من أدق التفاصيل الحياتية لهؤلاء الناس، بل إنك قد تعرف عنهم ما لا يعرفه بعضهم عن بعض، وكل هذا متحقق بعين محبة وساخرة في ذات الوقت، قد تبدو أسرة رئيس البلدة النزيه الطيب هي الأقرب والمحور ولكن الشخصيات الأخري تحيط بها وتتداخل أحداثها معها من كل جانب.. مجموعة من الشخصيات الخالدة التي لا تنسي.. هذا الشاب شبه الممسوس المفتون بإصلاح الأجهزة الكهربائية والذي تدور حوله وحول والده الحكايات الأقرب للأساطير، وسوف يدهشك الممثل الذي يؤدي دور صاحب السينما الشرير بملامحه الغريبة وأدائه المعبر، سوف يشعرك بما ينتابه من غيرة من جهاز التليفزيون الذي ربما يأتي مجيئه إعلانا بكساد دار العرض التي يملكها، كما ستتمكن من معرفة سر عروس القرية الجميلة التي يتعلق قلبها بحبيبها الذي سافر من أجل الالتحاق بالجيش لأداء الخدمة العسكرية أثناء الحرب، وسوف تعيش معها ومع حبيبها لحظات الوداع الحميمة المفعمة بالحب والبراءة، كما ستتأرجح حالتك بين السخرية والتعاطف ثم الشفقة مع زوجة رئيس الحي المتعلقة بابنها المجند والتي يصبح جهاز التليفون محور اهتمامها الدائم في انتظار مكالمة من الابن الغائب بشكل جنوني، وهي تستسلم لنصيحة الشيخ الأفاق بالتخلص من جهاز التليفزيون باعتباره شيطاناً ونذير شؤم بالنسبة لابنها، وربما ينجرف الفيلم قرب نهايته فجأة نحو الميلودراما التي تصيب المشاهد بحالة من الارتباك مع مواقف حزينة بعد استشهاد الابن علي الجبهة، وقد يتداخل في هذه المشاهد مع المأساة كوميديا ليست في محلها، ولكن المخرج يستعيد سيطرته علي الدفة بمشاهد النهاية التي يؤكد فيها علي رؤيته الحضارية التقدمية، فمهما كانت المعوقات التي تواجه التكنولوجيا إلا أنه لن ينجح أحد في منع توغلها وانتشارها.. فالزمن لا يعود للوراء.. لعل الجميع من محدودي الوعي يفهمون، فحتي هؤلاء الريفيون البسطاء الذين يعيشون في عزلة عن العاالم، قد أصبحوا في سبيلهم إلي قبول هذا الوافد الجديد.