إذا كنت تنتظر عرضا موسيقيا واستعراضيا متكاملا له مطلع وبداية ونهاية فإن أملك سيخيب . لأن ما تقدمه هذه الفرقة الكندية التي جاءت إلينا بعد انتظار هو مجرد اسكتشات متناثرة.. من أشهر المسرحيات الغنائية والموسيقية التي عرضت علي مسارح برودواي خلال الخمسين عاما الأخيرة .. التي تحول معظمها إلي أفلام سينمائية مبهرة مازلنا نذكر البعض منها حتي الآن كما نال بعضها الأخر جوائز الأوسكار الشهيرة. العرض يضم ما يقرب من الثلاثين اسكتش تقدمه فرقة مكونة من سبعة مغنيين ومغنيات يملكون أصواتا قيمة تؤهلهم لغناء هذه المقاطع الشهيرة من المسرحيات التي لم تغادر ذاكرتنا حتي اليوم.. وعشرين راقصا وراقصة يملكون مرونة جسدية عالية تؤهلهم للتنقل السريع بين مقطع وآخر من العرض. سينوغرافيا ماهرة إلي جانب ديكور متحرك يعتمد علي الجرافيك في خلفيته ومؤهل للانتقال السريع وخلق الجو الملائم إلي جانب عناية ظاهرة وملحوظة بالأزياء التي جاءت تقريبا مطابقة تماما للأزياء التي قدمت فيها هذه المسرحيات الموسيقية في زمانها. إلي جانب المهارة والسرعة الخارقة للمجموعة كلها بتغيير ثيابها من «تابلوه» وآخر.. دون أن تترك للمتفرج فرصة للتنفس أو التفكير. المسرحيات التي اختارتها الفرقة لم تقدم ترتيبها الزمني من حيث تاريخ عرضها لذلك جاء ترتيبها عشوائيا.. كما ركزت الفرقة وهذا أمر يحسب لها علي أهم أغنية في المسرحية أو أهم مشهد استعراضي راقص. لذلك كانت متعة عشاق السينما ومتتبعي الحركة المسرحية الموسيقية الأمريكية كبيرة لأن العرض فتح أمامهم باباً واسعاً للذكريات والعودة إلي زمن مشرق من ماضي سعيد. أما هؤلاء الذين عجزوا عن متابعة هذه الأعمال سينمائيا ومسرحيا، فإنهم كانوا يجدون أنفسهم أمام «طلاسم» موسيقية .. اكتفوا فيها بالفرجة والتمتع.. دون أن يفتحوا خزانة الذكريات في قلوبهم، ودون أن تمسهم هذه الرعشة الحلوة التي نحس بها كلما سمعنا لحنا قديما ارتبط بأذهاننا وذاكرتنا بحدث سعيد أو ذكري حلوة. الشعبية الشديدة العرض يبدأ بمسرح فارغ ، إلا من مساحة كبيرة في الخلفية وفرقة موسيقية تعزف وممثلين وراقصين يستعدون للعرض .. من خلال تدريبات جسدية وصوتية تهيئنا للدخول في أول هذه الاسكتشات وهو المأخوذ عن مسرحية «كورس لاين» والذي يأخذنا بعد ذلك مباشرة إلي مسرحيتين شهيرتين من زمن الخمسينات هما «مقهي سموكي جو» و«أني تأبطي بندقيتك» الذي نقل للسينما آنذاك من بطولة الراحلة «بيتي هيتون» والتي كانت شديدة الشعبية آنذاك.. وتدور أحداث المسرحية في عهد الغرب الأمريكي .. حيث كان رعاة البقر قد تحولوا إلي ممثلين وعارضين في السيرك إلي نهاية الحلم الأمريكي الزاهي الذي تحول إلي تجارة وسلعة رابحة. ويأتينا بعد ذلك استعراض «هالو دوللي» دون أن ينسينا الإبهار السينمائي الذي حققه «جين كيلي» بالفيلم الذي أخرجه وأخذه عن المسرحية الشهيرة التي مثلتها آنذاك علي المسرح والسينما «باربارا ستراستد». وفي سرعة خاطفة يتغير الديكور وتتغير الأزياء لنجد أنفسنا أمام مسرحية «باركلي من برودواي» التي نقلها للسينما الثنائي الشهير «فريد أشير وهنجر روجرز». وهكذا تتوالي الذكريات حاشدة مستمرة متعاقبة تفتح أمام أعيننا صفحات ظننا أننا قد نسيناها ولكننا نكتشف أنها مازالت حارة مشتعلة من القلب. البطالة ونضحك قليلا أمام تابلوه «فيكتور كلوريا» ونذكر أداء «جولي أندروز» التي تنكرت في زي مغن ذكر لكي تتغلب علي متاعب البطالة التي سادت أمريكا في الثلاثينات ثم نذكر شارلين الحلوة و«شرلي ماكلين» في الفيلم المأخوذ عن فيلم الإيطالي «فليني» «ليالي كايبريا» ونصفق لمشهد الغانيات اللاتي يعرضن أجسادهن للبيع في تابلوه غنائي لا ينسي.. يتبعه مباشرة تابلوه آخر من مسرحية «شيكاغو» التي تحولت إلي فيلم حاز علي الأوسكار ويروي قصة أربع سجينات اتهمن بقتل أزواجهن.. ويقضين عقوبات مؤبدة في سجن للنساء.. «وفي هذا التابلوه قدمت الفرقة واحدا من أجمل اسكتشاتها ديكورا ورقصا وأزياء وغناء». أما بالنسبة لإيفيتا «الذي يروي قصة صعود وسقوط «ايفيتا بيرون حاكمة الأرجنتين» فإن الاسكتش اكتفي بتقديم الأغنية الشهيرة «أرجنتينا لا تبكي لأجلي» التي مازالت ملء السمع والبصر منذ أن غنتها مادونا في الفيلم الشهير المأخوذ عنها. كذلك جاء الحال غريبا في تابلوه «قصة الحي الغربي» الذي امتلأ بالرقصات المدهشة التي صممها «جرون رونيز» والتي اكتفت الفرقة بتقديم أغنية عاطفية منها أغنية المغنية الأولي بالفرقة بصوت متهدج ومؤثر. وتأتي قمة أخري في العرض عند تقديم لوحتين من مسرحية «البؤساء» التي لاتنسي بشكل مسرحي شديد التأثر ومن خلال حركة «ميزانسين» رائعة. لينتهي القسم الأول من العرض بمشهدين ضاحكين من مسرحية «شحم» التي تصور جنون شباب الخمسينات والتي كانت سببا في انطلاق نجم «ترافولتا» والذي تحول بفضل هذا الفيلم إلي «أيقونة» شبابية ساحرة. الجميلة والوحش ثم مشهد شديد الهزلية من مسرحية «بخاخة الشعر» تنكر فيها المغني بدور امرأة لتنزل الستار علي الجزء الأول من العرض. وجاء الجزء الثاني أكثر إبهارا وأكثر متعة لأنه احتوي علي مقاطع من مسرحيات تجعل من الإبهار جزءا من تكوينها الأساسي ك«الجميلة والوحش» .. و «القطط» التي يصل فيها الديكور والأزياء إلي درجة كبيرة من الإبهار إلي جانب لحنها الرئيسي الذي مازالنا نردده حتي اليوم.. وشبح الأوبرا بكل زخمه الموسيقي وإبهاره البصري إلي جانب مقطع شهير من مسرحية «هير» التي كانت إعلانا شبابيا عن ثورة شباب متمرد ضد حرب فيتنام وضع شعار لها «نعم للحب .. ولا للحرب» إلي جانب عودة سريعة لأيام العشرينات من خلال استعراض راقص من مسرحية الشارع 42 تحفة بيبسي باركلي الخالدة.. والتي ظهرت فيها الراقصات بثيابهن العارية التقليدية ليرقصن الرقصة الجماعية المعروفة ويتوقف العرض قليلا عند أغنية دينية من مسرحية «المسيح نجم النجوم» قبل أن ينتقل إلي «فرقة الآابا»، واثنين من أشهر أغانيها في المسرحية التي تعتمد علي ألحانهم التي شاعت شيوعا مذهلا في السبعينات وتحمل اسم «ماماميا» وشهدناها بالموسم الماضي فيلما رائعا من بطولة «ميريل ستريب». ملك الغابة ومرة ثانية نعود قبل الختام إلي مسرحية من الخمسينات مثلتها وغنتها الشهيرة «جولي اندروز» هي «ماري بونيز» ورقصة عمال المطافئ. قبل أن ينتهي العرض .. بمشهدين هما ذروة هذا العرض الانتقائي المفرح هي «الملك الأسد» بكل عنفوان أزيائه المدهشة ورقصات حيوانات الغابة فيه .. ثم المشهد الختامي من مسرحية «شهرة» الذي يماثل مشهد الافتتاح من مسرحية «كورس لاين» لتختم الفرقة برنامجها الحافل بتصفيق مدوي من الصالة أعاد لأجواء الأوبرا بهاءها وزخمها الذي افتقدناه خلال الشهور الماضية. روائع برودواي عرض استعراضي ينهض أساسا علي الذكريات التي تبعث في القلب كشرارات ضوء وفراشات ملونة وأصداء موسيقي مازالت نابضة في القلب. نعم لا شك أن متعة عشاق السينما ومتابعي الحركة المسرحية ستكون أكبر بكثير من متعة المتفرج العادي .. ولكن هذا المتفرج لن يشعر أنه قد أضاع وقته بل أنه علي العكس أصبح وتحول إلي فارس يجري وراء الزمن الضائع .. وهذا بحد ذاته مكسب كبير.