كادت حرية النقد في السنوات القليلة الماضية أن تكون مكفولة للسينمائيين دون قيد أو شرط، وكان التسامح الرقابي يمتد ويتسع تقريبا بلا سقف، فطالت الانتقادات رئيس الدولة بشكل مباشر لأول مرة في تاريخ السينما، لكن كان هناك اعتقاد سائد بأن هذه الأصوات تتحرك في الفراغ، فالأقلام والأفلام تنقد الفساد المسيطر والفقر المستشري والتفاوت الطبقي الرهيب بمنتهي الجرأة والحدة والسخرية، ولكنك في المقابل لا تجد أي أثر أو رد فعل أو استجابة من قبل مسئول أو مؤسسة أو وزارة نحو اتخاذ قرارات أو انتهاج سياسات تعبر عن استيعاب هذه الرسائل الناقدة والغاضبة، في الغالب كان التصور الشائع لدي هؤلاء المسئولين أن هذا التعبير الحر يؤدي فقط إلي حالة من الارتياح لدي الجمهور، في شكل صريح للديمقراطية المزيفة التي تتيح حرية الرأي دون أن يكون هذا الرأي مؤشرا له دلالاته أو تأثيره لدي أولي الأمر. لكن من جانب آخر في الحقيقة لم تكن غالبية الأفلام تعكس حالة من النضج والوعي والنقد الجاد، بل كانت غالبيتها تتعامل مع النقد السياسي والاجتماعي كأحد عناصر الجذب التجاري، وكانت تستغل اتساع مساحة الحريات أسوأ استغلال، وربما يبدو ذلك بوضوح في فيلم مثل الإرهاب والكباب الذي قرر فيه عدد من الساخطين علي الأوضاع أن يحتجزوا مجموعة من مرتادي مجمع التحرير، ويتجلي الخواء الفكري في هذا الفيلم حين يعجز هؤلاء الساخطون والمحتجزون عن أن يجدوا مطلبا من الحكومة سوي وجبة من الكباب، والغريب أن يحمل عمل مثل هذا اسم وحيد حامد، أحد أمهر كتابنا، وذلك علي الرغم من كم المشكلات والاحتياجات التي كان ومازال يطالب بها أفراد الشعب. ثلاثية ساذجة وفي مرحلة أقرب وفي ثلاثية من الأفلام لعب بطولتها نجم ينتمي لجيل أحدث هو هاني رمزي نري ثلاث حالات من الخروج عن المألوف وتجاوز الخطوط التي كانت حمراء، في الحالة الأولي نري رئيس الجمهورية يلبي دعوة حضور زفاف موظف الخارجية البسيط هاني رمزي في فيلم «جواز بقرار جمهوري»، ولكن حضور الرئيس يحرك كثيرا من المياه الراكدة في الحارة. وربما ينشغل الفيلم كثيرا عن تأثير هذا الحضور ليتفرغ لأزمة العلاقة بين العريس والعروس، ولكن ذلك لا يمنع هذا الفيلم من أن يعبر عن متاعب الناس وحاجتهم الحقيقية إلي التواصل مع رأس الدولة، بعد أن ضاعت أصوات صياحهم وصراخهم وبكائهم هباء. وفي تجربة أكثر جرأة علي مستوي الفكرة نري نفس النجم يدفع الجماهير في فيلم «عايز حقي» للمطالبة بحقها في ممتلكات الدولة، وعلي الرغم من سذاجة المعالجة تبقي الفكرة معبرة بقوة عن شعور الناس بأنهم محرومون من الكثير من الحقوق في وطنهم، أما «ظاظا رئيس جمهورية» فهو أكثر التجارب التي تعاني سذاجة الرؤية وركاكة التعبير علي الرغم من أنه أكثرها جرأة وصراحة في مناقشة قضية تداول السلطة التي كانت أقرب للتابو الذي لم يسبق للفيلم المصري اختراقه أو حتي مجرد ملامسته. وفي عام واحد بل وموسم واحد تستقبل دور العرض فيلمين كان خروجهما للنور أقرب للحلم والخيال وهما «هي فوضي» ليوسف شاهين وخالد يوسف و«حين ميسرة» لخالد يوسف منفردا، في الفيلم الأول نشاهد لأول مرة علي شاشاتنا اقتحام الجماهير لقسم البوليس للانتقام من أمين الشرطة الطاغية الفاسد المرتشي، أما في الثاني فهو يعرض في نهايته حربا حقيقية بين وزارة الداخلية والإخوان يتم من خلالها ما هو أقرب لإبادة كاملة لمنطقة عشوائية. روح مستقلة في العامين الأخيرين ربما لا تتصاعد حدة النقد السياسي وإن كان كم الأفلام التي يمكن اعتبارها تنتمي لهذا النوع يتزايد، ولكن يبدو أن سقف الحريات الذي وصل إلي أقصي مداه في حين ميسرة 2007 يعود لينكمش من جديد، فتستمر أزمة فيلم «عزبة آدم» 2009 مع الرقابة حول ما أثير عن اعتراضها علي بعض مشاهد السيناريو، فتم تعديله أكثر من مرة، ثم تعود الرقابة لتحيل النص إلي وزارة الداخلية، بدعوي أنه يتناول شخصية رجل شرطة فاسد، يفرض سطوته علي الفقراء من أهل العزبة ويعمل لصالح اللصوص الكبار ولخدمة مصالحه وطموحاته الشخصية،. ولكن أهم ما يفقده هذا الفيلم هو الناس أو الأهالي، فهم ليسوا موجودين علي مستوي الصورة أو الحدث، ويأتي الحديث عنهم وكأنهم كائنات غير مرئية، لا نراهم مجتمعين إلا في مشهد ضرب العاهرات بعد أن يفرج عنهم الضابط، فهل يكفي هذا المشهد للتعبير عن رأي المخرج والمؤلف في أهالي عزبتنا،. أم أن طموح هذا الفيلم قد أجهض نتيجة للاعتراضات الرقابية. وربما تتمتع السينما المستقلة بروح مغامرة أكبر اعتمادا علي ميزانيات منخفضة وبسعي أساسي في التوجه إلي مهرجانات دولية أكثر من سوق العروض التجارية، في فيلم «عين شمس» توجد حكاية أساسية تربط بين باقي الحكايات والشخصيات، إنها حكاية الطفلة شمس نوارة بيتها المشرقة بذكائها وبراءتها وشقاوتها تعيش مع أمها ربة المنزل وأبوها سائق التاكسي المكافح في حي عين شمس الشعبي شرق القاهرة، ويتلخص حلم شمس في أن تزور وسط البلد التي يعجز والدها في زحام انشغاله ويوم عمله الشاق في أن يصحبها إليها، وعندما يكتشف والدها أنها في مرحلة متأخرة من الإصابة بمرض سرطان الدم "اللوكيميا" وأنها علي وشك الوفاة يقرر تحقيق حلمها البسيط. لا تتسرع وتعتقد أنها مجرد حكاية ميلودرامية فالمرض والموت لا يأتيان فجأة ولكنهما نتيجة متوقعة لواقع دولي ومحلي فاسد يرصده الفيلم بذكاء، والمخرج لا تستهويه المشاهد البكائية ولا المفاجآت القدرية،. فحكاية شمس هي مجرد حكاية مؤثرة بشخصية تعلقنا بها وأحببناها وتعرفنا علي أسرتها عن قرب ولكنها واحدة من حكايات كثيرة ينسجها السيناريو ببراعة وبأسلوب مختلف في الحكي يعتمد علي فتح خطوط القصص والقدرة علي تنميتها من حين لآخر. وفي نفس العام نطالع أيضا في دور العرض تجربة أخري للسينما المستقلة مع فيلم «هليوبوليس» الذي تدور أحداثه كلها في يوم واحد في ضاحية مصر الجديدة، ولكن هذا التقيد يحقق درجة ما من التماسك للفيلم تعويضا عن شجاعة المخرج الفنية وطموحه الكبير في كسر كل ما هو مألوف وتقليدي. فالفيلم يطيح بجرأة متعمدة بكل الوسائل الدرامية التقليدية الممكنة أو المعتادة، لتحقيق أي علاقات فعلية أو ذهنية أو نفسية بين خيوط الحكايات المتجاورة، ولكنه يشهد في نهايته حالة من التدفق ولحظات تنوير عالية تفرض علي المشاهد قدرا من التأمل للبعد العام لشخصياته التي تكشف عن جوانب مشتركة بينها رغم تباعدها، فتبدو كل الشخصيات في النهاية ليست إلا نماذج متنوعة لحالات من الضعف والقهر الإنساني في مواجهة واقع خانق ومترد، يطيح بالجمال ليفرض القبح ويبدد الزمن ليجعل أفراده في حالة انتظار دائم للغد الذي قد لا يأتي أبدا. وفي العام الماضي يقدم جهاز السينما أحد أجهزة الدولة فيلما سينمائيا في غاية الجرأة، فسيناريو «واحد صفر» لمريم نعوم ليس مجرد تسجيل لفرحة شعب ينسي أفراده خلافاتهم في غمرة الاحتفال، ولكنه عن مواطنين مساكين يتشبثون بأي نصر يعوضهم عما يلقونه من هزائم وإهانات ليل نهار، وهو يؤكد لهم أن النصر في مباراة كرة لن يحل مشكلاتهم ولن تتحقق فرحتهم الحقيقية إلا بمزيد من العمل والمصارحة والحوار بين مختلف طبقاته وطوائفه،..إنه فيلم رائع تكفر فيه الحكومة عن بعض من سيئاتها في حملتها الغاشمة - احسبها صح تعيشها صح - تلك الحسبة التي أصبحت الحكومة في أشد الاحتياج إليها قبل شعبها الذي يتطلع إلي نصر حقيقي ليس واحد صفر فقط وإنما ثلاثي علي الفقر والجهل والمرض. بين الحزن والغضب وفي الشهور الأخيرة الماضية شاهدنا ثلاثة أفلام عبرت بقوة عن واقعنا المثير للحزن والغضب برؤي وزوايا مختلفة، كان أولها «رسائل البحر» الذي يتمكن فيه البطل بعد طول عناد من أن يستجيب لنصيحة العجوز فرانشيسكا ويتقبل الحياة كما هي والآخرين كما هم، وسيتقبل ايضا نصيحة عشيقته نورا له بأن يكف عن التفكير في سر الرسالة التي وجدها داخل زجاجة في البحر وأن يكتفي بأن يعرف أنها موجهة له طالما أنها وصلت إليه، ولكن الحاج هاشم ممثل طبقة الطفيليين والبلطجية الجدد لن يتركه في حاله وسيبعث رجاله ليقتحموا شقته ليضبطوا نورا معه كذريعة لطرده من الشقة، سيستقل يحيي ونورا قاربا لينعما بقليل من السكون لبعض الوقت، ولكن الأسماك التي قتلها ديناميت الحاج هاشم سوف تحيط بقاربهما من كل جانب في قلب البحر، والفيلم يعبر ببلاغته الهادئة عن الواقع الملوث والبيئة الفاسدة الخانقة المحيطة بكل ذوي النفوس الجميلة والأرواح الطيبة والعقول المستنيرة. أما في «بنتين من مصر» فلا أعتقد أن محمد أمين مؤلفا ومخرجا لجأ إلي الميلودراما كما يدعي البعض ولكنه قدم صورة حقيقية وواقعية جدا، ربما بدت صادمة ولكنها عكست مأساة آلاف البيوت وترجمت حديث الساعة لكل الأسر، والفيلم لا يحكي كعادة الافلام المصرية الميلودرامية عن فتيات يدفعهن الفقر إلي الرذيلة فنتابع رحلة سقوطهن من العلاقات العابرة إلي الملاهي الليلية إلي بيوت الدعارة، ولكننا نلتقي مع بناتنا العاديات جدا، بنات جيراننا وأهالينا الطيبين الذين يمثلون الغالبية العظمي، حيث الاستسلام غالبا لشروط المجتمع وتقاليده والتمسك بالدين والعفة وكبت العواطف والمشاعر إلي أن ياتي العريس أو يحين الأجل، ولكن هناك رحلة أيضا للسقوط ولكن ليس لعالم الرذيلة لا سمح الله، ولكنه سقوط إجباري إلي عالم الخضوع والتنازل عن الكرامة وكل الحقوق من أجل الزواج. أما «ميكروفون» الذي تشهده دور العرض حاليا فنري الشباب فيه مازالوا قادرين علي أن يغنوا وأن يبدعوا لكنهم لا يتمكنون من أن يرفعوا أصواتهم بالغناء أو أن ينشروا إبداعهم أيا كان نوعه، إنهم في حاجة حقيقية إلي «ميكروفون» أو وسيلة لتوصيل أصواتهم، ولكنهم في صدام دائم مع من يسعون إلي كتم أصواتهم في البيت وفي الشارع بل وحتي في المؤسسات الأهلية، ويعبر الفيلم عن رسالته العميقة الموجهة للمجتمع بأسلوب فني خالص وبمعادلات موضوعية في منتهي الذكاء والإتقان. وبعيدا عن هذه النماذج المميزة من الأفلام تاه الخطاب السينمائي وارتبك في كثير من الأحيان بقدر ما تميز بالبلاغة والصدق والوضوح في أعمال ذكرناها، ولكن يبقي السؤال هل بلغت الرسالة في تلك الأفلام الجادة ؟ أي هل كان لها تأثيرها الواضح علي قطاع كبير من الشباب أم أن جيل الكومبيوتر والفيس بوك كان يفضل مشاهدة السينما العالمية التي أتاحتها له وسائل الإنترنت، وهل كان من بين هؤلاء الشباب كثيرون يرون أن السينما المصرية مازالت بخير وأن بعض مبدعيها كانوا يبعثون إليه برسائل في غاية الأهمية، علي أي الأحوال أعتقد أن السينما المصرية بوجه عام في حاجة إلي استعادة الثقة من جديد في جمهورها، ولتؤكد له أنها قادرة علي التعبير بصدق عن واقعه ودون اعتبار مشكلاته مجرد وسيلة تجارية لجذبه نحو شباك تذاكرها بمفهوم قاصر ومحدود النظر.