ها هو اتحاد الناشرين المصريين يضيف لنا رقيبا جديدا بهدف حماية الملكية الفكرية حفاظا علي (حق الملكية المقدس) وأي رقيب: دار الإفتاء المصرية ! بكل جلالها . وذلك بناء علي طلبه لفتوي رسمية حول حكم طباعة ونشر وتوزيع كتاب بأي صورة من الصور المقروءة والمرئية والإلكترونية، دون موافقة أو إذن كتابي من المُؤلف صاحب العمل أو الدار الناشرة له، وجاء الرد المفصل من دار الإفتاء يقول :" جاء الإسلام بحفظ المال، وجعل من ذلك من المقاصد الكلية الخمسة التي قام الشرع الشريف عليها " وهي حفظ النفس والدين والعرض والعقل والمال" . ( أرجو ملاحظة أن المشرّع قد قدم حفظ العقل علي حفظ المال). وقد عبر رئيس اتحاد الناشرين العرب عن سعادته البالغة وتقديره لمبادرة اتحاد الناشرين المصريين ولفتوي دار الإفتاء التي يعتبرها خطوة بالغة الأهمية من أجل الحفاظ علي حقوق الملكية الفكرية . حالة خلط نموذجية لإقحام مؤسسة الدين في مجال غير مجالها بهدف خدمة رأس المال الأعمي والرأسمالية المتوحشة التي تفتقر إلي الإحساس بدورها الوطني أو الاجتماعي، ما ظل الربح هو الذي يعنيها أكثر من استنارة المواطنين أو نشر ثقافة الدولة المدنية حتي لو كانت السلعة هي الثقافة (جابر عصفور) . ما لفت نظري في الموضوع حقيقة هو توقيت إثارة هذا الموضوع وعلي هذا المستوي، في الوقت الذي يدخل فيه الكتاب واتحادهم معارك مفتعلة ملفقة مع قوي متخلفة يفتح اتحاد الناشرين الباب الذي نحاول أن نغلقه منذ عقود جيل وراء جيل، منذ معلم الأجيال طه حسين حتي نصر حامد أبو زيد، مرورا بشرفة ليلي مراد وحواديت" ألف ليلة وليلة". ففي واقع عربي تتجاوز فيه نسبة الأمية 40%، وتتراجع فيه نسبة قراء الكتب لدرجة مخيفة تدعو للقلق علي عقول الشباب ومستوي وعيهم، وفي واقع عربي محاصر من الخارج والداخل بعوامل وإغراءات وطرق متعددة لإبعاده عن القراءة والجدية في التعامل مع الحياة وتوجيههم لاتجاهات أخري استهلاكية سطحية و تافهة، في واقع يحتاج لدرجة عالية من الوعي والإدراك لحركة الصراعات والقوي والأخطار التي تحيط بعالمنا العربي والإسلامي، نطلب فتوي في تنزيل الكتب المنشورة الكترونيا من علي النت! ولي هنا خبرة شخصية أقولها بصراحة : أن مسرحيات الكاتب الألماني فالك ريشتر التي قمت بنقلها للعربية ونشرت في الشهور الأولي من عام 2010 وجدتها جميعا علي النت، وقبل أن يقوم المركز القومي للترجمة - كجهة نشر محترمة تحترم القانون - حصل علي موافقة الناشر الأصلي للكتاب . فيجب التفرقة هنا بين أن تتداول المادة المنشورة علي النت تداولا شخصيا للقراءة والاستفادة، أو أن يعاد طبعها في كتاب، فهذه قصة أخري، حقيقة لا تحتاج لحكم الشريعة الإسلامية، بل تحتاج لمحاجة قانونية لا أكثر. وقد التقي مؤخرا رئيس اتحاد الناشرين المصريين مساعد وزير الإدارة العامة لمباحث المصنفات لحماية حقوق الملكية الفكرية، بهدف توقيع برتوكول للتعاون بين الاتحاد ومباحث المصنفات، للحد من القرصنة الورقية والإلكترونية لكتب الناشرين المصريين. هذه هي الجهة المنوطة بالموضوع في إطاره كمخالفة قانونية، وليس دار الإفتاء. إن اتحاد ناشرين بهذه العقلية لا يمكن أن يكون قوة دفع لهذا الواقع الفاشل الذي نحن فيه فبنفس المنطق يكون من الضروري علي جميع دور النشر أن ترسل كتبها ومطبوعاتها المزمع نشرها لأخذ رأي دار الإفتاء في محتويات النصوص قبل نشرها ومدي مطابقتها للشريعة الغراء ! حتي نهاية السبعينات، كنا نقوم بترجمة العديد من الكتب الأجنبية، دون موافقة دور النشر، من منطلق أننا دولة فقيرة تعيش علي المعونات أو دولة منهوبة ينهبها أولادها، ولأننا كمثقفين لم نشعر لحظة أننا نتعدي علي حقوق ملكية الغير، بل نحن نعتقد بل نؤكد أن الإنتاج الثقافي ملكية عامة وليس ملكية خاصة، فشعر شكسبير يخص العالم كله، وليس انجلترا وحدها . ولم تفلس دور النشر الأجنبية نتيجة ذلك، بل ولم تهتم أصلا. هكذا كان موقف الرأسمالية المتحضرة، التي تقدر قيمة المعرفة والثقافة، فكانت تغمض عينيها عما تفعله الدول الفقيرة. أما محدثو الرأسمالية الرثة في عالمنا الفقير المنهوب، رغم ملايين الدولارات واليوروهات والريالات التي تساقطت عليهم في السنوات الأخيرة من كل ناحية: من الشراكة الأوروبية، ومن المراكز الثقافية الأجنبية المتعددة النشطة، ومن بعض السفارات الأجنبية، ومن المؤسسات الثقافية العربية .. الخ فقد فتح ذلك شهيتهم لجمع المال وتدويره، فهم لا يفرقون بين تجارة البصل والكراث وتجارة الكتب والمطبوعات التي مهمتها نشر الثقافة والإبداع . مرة أخري : إنها لغة رأس المال، التي لا تفرق بين سلعة وأخري . وكما يقول الفيلسوف الكبير تيودور آدورنو Theodor Adorno: " لقد دمرت الرأسمالية الفن بتحويله إلي سلعة مثل الصابون والسيارات" .