ميزتان أساسيتان تدفعان المرء إلي رؤية هؤلاء «الكبار» الذين يأتون إلينا في نهاية موسم صيفي سينمائي مليئ بخيبات الأمل لم يكسر الظلام فيه إلا فيلم واحد استطاع بجرأته وتحديه وكمية الشجن الكبيرة التي تملأ مشاهده .. أن يعيد لنا الأمل في سينما نحسها ونسعي إليها. الميزة الأولي هي عودة «بشير الديك» السيناريست الكبير إلي عالم السينما بعد غياب طويل.. نعتاد في أروقة الدراما التليفزيونية التي قدم فيها أعمالا تستحق الإشادة والإعجاب.. ولكن هذا النجاح التليفزيوني لم يمنعنا من افتقاد كاتب سينمائي كبير مثله أعطي السينما المصرية روائع لا يمكن نسيانها وساهمت السيناريوهات السينمائية البارعة التي كتبها في نقدية أعمال مخرجي الموجة الجديدة في مصر.. التي ما زالت سينمانا حتي اليوم تحيا علي ذكري أمجادها. الفن الساحر الصعب عودة مرتقبة ومرجوة إذن تشكل الجاذب الأكبر لهذا الفيلم الذي يقدم لنا أيضا مخرجا شابا هو «محمد العدل» من أسرة فنية تبدو أنها قررت أن تهب كل أفرادها لهذا الفن الصعب والساحر. هاتان الميزتان مليئتان بترقب حاد.. لم يستطع الفيلم مع الأسف أن يحققه. الفيلم يتابع طموحاته الفنية بأن يقدم لنا باقة من الوجوه الجديدة التي أثبتت جدارتها في أفلام سابقة وأشدنا بها كما تعلق الجمهور بجاذبيتها الفنية التي تلألأت في أكثر من مجال. «زينة» التي مازلنا واقعين تحت تأثير أدائها المدهش في «بنتين من مصر» وعمرو سعد الذي صعد في أفلام كثيرة أخري إلي مستوي نجومية يستحقها، ومحمود عبدالمغني الذي كان الكشف التمثيلي الكبير في فيلم «دم الغزال» والذي جعلنا ننتظر منه الكثير. هؤلاء النجوم الثلاثة الذين يبزغون بشبابهم وموهبتهم إلي جانب «خالد الصاوي» الذي أصبح دون جدل واحدا من أهم نجوم السينما المصرية يقف وقفة الند إلي جانب أبطالها الكبار الذين عرفناهم وأحببناهم كعادل أدهم ومن سار علي مدرسته.. ولكن الصاوي استطاع أن يضيف لمسة تمثيلية خاصة به .. جعلت منه هو «مثلا» يقتدي عوضا عن أن يكون تلميذا لمدرسة شائعة عرفت السينما المصرية كيف تلألئ أبطالها. إذن الجاذبية السينمائية في فيلم «الكبار».. كبيرة ومثيرة فما سر هذا التخبط الذي وقع فيه الفيلم؟ هل هو ذنب المخرج الشاب الذي ترك ممثليه الشبان يمثلون علي سجيتهم دون أن يستطيع ارشادهم أو توجيههم «عمرو سعد» يصرخ ويصرخ ويصرخ.. محمود عبدالمغني يقلده في الصراخ وحتي الجميلة زينة أصابتها العدوي فراحت تصرخ في مشاهدها.. وتقضي تماما علي هذا الهمس الملئ بالشجن الذي كان يميز أدوارها الأخيرة وحده خالد الصاوي .. استغل صراخه بشكل درامي مقنع. واختار أن يقف في مرحلة محايدة بين الصراخ والهمس يقفز بينهما بمهارة لاعب ماهر يعرف كيف يرفع الصوت في جمل خاصة وكيف يهمسها في جمل أخري وكأنه عازف موسيقي يلعب علي وتر قيثارة أصيلة. عود أحمد بشير الديك اختار موضوعا مطروقا لعودته المنتظرة إلي السينما.. راغبا بأن يقدمها من خلال تنويعات خاصة به.. يدرك أكثر من غيره كيف يصوغها وكيف يجعلها فائقة التأثير. عمرو سعد محام عام يمثل النيابة يهاجم بشدة شابا اتهم بجريمة قتل وينجح في استصدار حكم بإعدامه وفي يوم التنفيذ .. يكتشف خطأه وبراءة المسكين فيسرع إلي إيقاف التنفيذ ولكن بعد فوات الأوان. هذا الخطأ يثقل علي ضميره إلي درجة أنه يهجر مهنته في النيابة العامة ليلتحق بصفوف المحاماة وهناك تصادفه قضية دهس فتي في العاشرة هو وحيد أسرته .. دهسه شابان مستهتران من أسرة كبيرة ذات نفوذ ورغم نجاحه في جمع أدلة الإثبات وجلب الشهود في قضية بديهية لا تحتاج إلي مهارة خارقة فإن أسرة الشابين تنجح في تحويل القضية عن مسارها وتنجح بتبرئة المجرمين وتدفع بالأب المفجوع إلي التنازل عن حقه!! كل هذا يقود المحامي الشاب إلي مرحلة كبيرة من اليأس والإحباط ، ولا يستطيع رفيق عمره «محمود عبدالمغني» الذي رافقه في كل مراحله أن ينقذه من هوة اليأس هذه .. رغم لجوئه أحيانا إلي القبض عليه وانقاذه من دوامة السكر والمخدرات. وتأتي الضربة الثالثة عندما تستخدمه إحدي المؤسسات الكبري التي برعت في عمليات الاحتيال والتزوير والتهريب والصفقات المالية الكبري .. وتعينه محاميا لها وتطلب منه رشوة قاض محترم يعرفه «ويلعب دوره باتقان حقيقي سامي العدل» للحصول علي براءة مجموعة من المجرمين ثبتت الأدلة ضدهم في قضية مخدرات كبري مستغلين ظروف القاضي المادية الصعبة ومرض ابنته الوحيدة وحاجته إلي مبالغ ضخمة لكي يتمكن من علاجها في الخارج. وينجح المحامي الشاب الذي باع ضميره في اقناع القاضي وإصدار حكم يخالف ضميره ولكن القاضي ينتحر في قاعة المحكمة بعد إصداره الحكم «ميلودرامية ثقيلة كان يمكن للسيناريست الكبير أن يجد لها حلا آخر» . هذا الانتحار الميلودرامي يؤثر علي نفسية المحامي إلي جانب ضغوط صديق عمره الذي أصبح الآن يعمل في جهاز المخابرات.. من خلال تحرير صفقة أدوات طبية ملوثة بشعاع ذري.. يستفيق ضمير المحامي الشاب بالإضافة إلي بدء علاقة حب مزيفة بشقيقة الرجل الذي ساهم في الحكم عليه بالإعدام شنقا «زينة»، والتي كادت أن تحترف الدعارة ولكن «كمال» وهذا اسم المحامي ينجح في انقاذها في آخر لحظة .. قبل أن تتورط في الرذيلة «حل ميلودرامي آخر لا يليق ببشير الديك» ويعيدها إلي أمها الضريرة والتي تلعب دورها صفاء الطوخي .. بكثير من الحساسية والتأثير وربما كان أداؤها إلي جانب أداء الصاوي خير ما في هذا الفيلم من أداء تمثيلي. لقد استطاعت صفاء أن تجعل عينيها تتحركان إلي الأعماق رغم جمودهما الظاهري وقدمت صورة بعيدة تماما عن المبالغة والعاطفية المبتذلة لشخصية الأم الضريرة. يعود كمال إذن إلي وعيه ويحاول إيقاف الصفقة المشئومة لكن الزعيم الكبير يكتشف الأمر في حفلة كبري يدعي إليها كبار القوم يفضح الزعيم ربيبه ويهزأ به ويجرده من كل ستر ويدعه عاريا أمام الجميع .. مما يدفعه إلي القيام بحركة أخيرة وهي اطلاق النار علي الزعيم وقتله. كما نري الفيلم يتخبط بين التصوير النفسي وبين الميلودراما البوليسية القائمة علي النزاع بين الخير والشر ومن تحليل شخصية أبطاله ولكن بصورة يعوزها المنطق الدرامي المقنع. بشير الديك لا يخرج بسيناريو فيلمه «الكبار» عن دائرة محكمة سبق للسينما المصرية أن عالجتها أكثر من مرة وبصورة أكثر توفيقا. ولكن تبقي رغم ذلك لمسات السيناريست الكبير التي لا تخفي علي أحد والتي تعطي بعض المشاهد عمقا ونكهة وروحا لا تجدها في أفلام أخري كهذه العلاقة العابرة التي يرسمها بين المحامي الذي فقد الأمل في الزمن والناس وفي نفسه قبل أي شيء آخر، وفتاة الليل الصغيرة التي يصادفها في بار رخيص ويصطحبها إلي بيته ليعيش من خلالها أزمته وصراعه مع نفسه. أو مشهد زيارة «كمال» الأولي إلي أسرة القاتل البريء الذي حكم عليه بالإعدام .. وطرده من قبل شقيقة القتيل.. كل مفردات المشهد وطريقة تقديمه وإيقاعه.. يذكرنا بلحظات بشير الديك الحلوة في أفلامه السابقة كذلك بعض المشاهد الأخري التي تتفجر فيها «عين» الديك ورؤيته الحساسة الشفافة التي طالما أحببناها وأشدنا بها. ولكن هذا لا يكفي ليبرر هذه العودة الكبيرة التي طال انتظارنا وشوقنا لها. محمد العدل.. مخرج.. قدم لنا مشهدًا واحدًا.. كبيرًا.. يشي بموهبته السينمائية.. وهو مشهد الحفل الأخير.. الذي يفضح فيه (الزعيم) تلميذه العاق.. حركة الممثلين والكاميرا.. وإيقاع المشهد ولهاثه وطريقة أداء الصاوي.. وردود فعل عمرو سعد.. كل ذلك أمسك المخرج الشاب بقوة وحزم يجعلنا مطمئنين تمامًا إلي المسيرة القادمة التي سيخوضها.. والتي ستكون دون شك أكثر إثارة وأشد تنوعًا. كما يتعين علي مخرجنا الشاب.. وهو مازال في أول طريق سينمائي طويل سيقطعه دون شك أن يعطي جل انتباهه إلي إدارة الممثلين.. وتحريكهم. أداء صوتي فهذه المبالغة في الأداء الصوتي.. التي سمعناها من عمرو سعد.. وزينة وعبدالمغني لا يحاسبون هم عليها قدر ما يحاسب هو.. لأن هؤلاء الثلاثة بالذات قد أثبتوا في أفلام سابقة مقدرتهم الصوتية الكبيرة.. وقوة تكوين أدائهم وتوزعه من الصوت المنخفض والمرتفع. ولكن في المقابل.. علينا أن نتوقف أمام الايقاع اللاهث الذي سار عليه في مطلع الفيلم، الذي خلق توازنًا شديد التأثير.. بين مشاهد السيناريو.. تسلسلها الزمني والنفسي. ميزة أخري تضاف ليمزات المخرج الشاب.. الذي اعتقد أن باب السينما الذهبي مفتوح أمامه بقوة.. ولكن عليه التريث الشديد في خطواته وأن يحسب حسابًا كبيرًا لها.. لأن (الأميال) الأولي من هذا الطريق السينمائي الشائك مليئة دائمًا بالمطبات. فيلم (الكبار) قد يكون قد خيب أملنا قليلاً.. في إرواء عطشنا لفيلم كبير يكتبه الديك ويخرجه مخرج شاب طموح. ولكنه مع ذلك.. حاول قدر طاقته أن يخرجنا من الدائرة المفرغة لأفلام الصيف.. التي تناوبت علي رمينا بالسهام القاتلة.. حتي لم يعد في جسمنا موقع لجرح جديد.