كتبت سحر النادى يحكى أن واحد غلبان في بلد فيها ثورة كان ماشي لوحده بالليل فطلعوا عليه جماعة مسلحين وسألوه: "إنت معانا واللا مع التانيين؟" فبما إن الجماعات كترت ولا أحد يعرف مين مع مين، الراجل آثر السلامة وقال لهم: "أنا معاكم" فضحكوا جميعا ضحكة شريرة وبدأوا يضربوه قائلين:"طيب إيه رأيك بقى إن احنا التانيين؟" أحوالنا المبكية هذه الأيام ذكرتني بهذه القصة التي تنتمي للكوميديا السوداء. هل فقدنا البوصلة وتاه منا الطريق ونحن منشغلين في أن ننقسم ونتعارك ونتشرذم؟ أقول ذلك لأنني أشعر برغبة ملحة في الاعتذار للثورة العظيمة التي ضيعنا هيبتها في العباسية وروكسي ومصطفى محمود... وللأسف في التحرير كذلك! أصبحت الثورة وسيلة ترويج نبيع بها الألحفة والجبنة البيضاء وكروت المحمول، كما أصبحت مطية لمن لا عمل له، وسبوبة لمن لا دخل له، وانتماءا محترما لم يكن يحلم به من كان مكانه الطبيعي قبل ذلك في الركن المهمل الذي تكوم فيه "أم سيد" الكراكيب انتظارا لمرور بائع الروبابكيا. هذه هي الديمقراطية التي ثرنا من أجلها في مفهومي: أن أعبر عن قناعاتي بحرية ولا أتعرض للإرهاب الفكري لأن رأيي في بعض الأحيان يكون في صف "التانيين" لو رأيت أن معهم الحق هذه المرة. يبدو لي من مراقبة انفعالات الناس مؤخرا أننا استبدلنا الكورة بالسياسية: فأخذنا نتعصب تعصبا أعمى لفريق على حساب الآخر، بحيث لو تجرأت وانتقدت أداءه في قرار أو تصرف ما فأنت بالضرورة من أنصار الفريق المنافس وتستحق "علقة" ساخنة جزاءا وفاقا لخيانتك العظمى لكونك "مع التانيين"، رغم أن وقوفنا يدا بيد مع هؤلاء "التانيين" في التحرير من عدة أشهر كان هو السبب الرئيسي لنجاح هذه الثورة. والأدهى من ذلك أن هناك الآن من يحكم علي قناعاتك الثورية من مظهرك، فإذا كنت ترتدي بدلة راقية فأنت من العلمانيين الرأسماليين الليبراليين، وإذا كان شعرك منكوشا وصوتك عاليا وترتدي جينز قديم فأنت يساري (مع إن الجينز رمز أمريكي!) وإذا كانت لك لحية، فإما أن تكون مقترنة بالجينز فأنت إذا ثوري، أو مرتبطة بالجلابية فأنت إذا سلفي... وهكذا لماذا تركنا وحدتنا أثناء الثورة وبدأنا نبحث عن تصنيف لبعضنا البعض؟ فكوني محجبة مثلا لا يجعلني بالضرورة من مساندي الإخوان، واتفاقي مع الجيش في بعض القرارات لا يجعلني من جماعة "إحنا آسفين يا مجلس" كما أن تحفظي على بعض قراراتهم لا يجعلني من فرقة "يسقط يسقط أي حد شكله مش عاجبنا". ما الذي يجعلنا كشعب متحضر نقع في فخ الحكم على توجهات الناس السياسية والدينية بهذه السطحية؟ وما سبب ميلنا للتعميم المتعصب الأعمى لفريق ما في الهجوم أو الدفاع كأن هناك بيننا من هم معصومون وفوق النقد والشكوك والمحاسبة الموضوعية؟ لا السلطة كلها شياطين ولا الثوار كلهم ملائكة، والعكس صحيح. ولذلك من حقي أن أنتقد الثوار على بعض التصرفات المستهترة، كما أن من حقي أن أصفق للمجلس العسكري أو الحكومة على بعض القرارات الحكيمة، والعكس صحيح. هذه هي الديمقراطية التي ثرنا من أجلها في مفهومي: أن أعبر عن قناعاتي بحرية ولا أتعرض للإرهاب الفكري لأن رأيي في بعض الأحيان يكون في صف "التانيين" لو رأيت أن معهم الحق هذه المرة. وبذلك ينتفي التعصب ونعطي فرصة للموضوعية في الحوار واستقصاء الحقائق للخروج بنتائج صحيحة هدفها الوحيد مصلحة مصر وليس تصفية الحسابات والانتصار الزائف على الفريق المنافس. الأهم عندي أن من يعلوا صوتهم الآن من على المنصات وأمام الميكروفونات وعلى الشاشات ليسوا أكثرنا عملا من أجل مصر، بل بدأت المصالح الشخصية الممجوجة تطل برأسها ولو على حساب الصالح العام، ونجد مثلا وائل غنيم على حسابه في تويتر يستنكر ما يحدث هناك من استقطاب ومزايدة ولعب على المشاعر قائلا: "التويتر تحول لجو منصات التحرير، كل واحد بيطلع يزايد على اللي كان بيتكلم قبله ويطالب بالتصعيد. وصوت الحكمة بقه صوت منبوذ ومرفوض". ولذلك أتساءل: لماذا يرفض البعض الحوار ويفضل التصعيد؟ ولماذا يمضي البعض أوقاتهم في الهتافات بينما غيرهم منشغل بترتيب الأوراق للانتخابات؟ ولماذا لا نجد شباب التحرير والإئتلافات -بدل اقتصار عملهم على الهتافات والمسيرات والاعتصامات- يعدون العدة ليدخلوا البرلمان بعد تخفيض سن الترشح إلى 25 سنة ليغيروا مصر من هناك ويرونا من أنفسهم خيرا في مواقع المسئولية بدل المنصات؟ هل الثورة الآن ثورة "طق حنك" فقط من جميع الأطراف، أم أن لها خطة حكيمة توصلنا لبر الأمان؟ والسؤال الأهم: هل يستطيع أي فريق منا الوصول إلى بر الأمان وحده بدون "التانيين"؟؟ الكابتن لطيف رحمه الله كان له مقولة حكيمة تنقذنا مما نحن فيه: تعالوا نشجع "اللعبة الحلوة" التي يلعبها أي فريق، سواء كان فريقنا أو فريق "التانيين". ويا ريت ننضم كلنا بسرعة لجماعة "إحنا آسفين يا ثورة" ولكن أحذركم أن هذه المرة المسيرة طويلة حبتين، طولها على الأقل 25 سنة!