يحلو للبعض الحديث عن الجمهورية الثانية، باعتبار أن الجمهورية الأولى كانت جمهورية العسكر، أما هذه الثانية فجمهورية المدنيين، وأن الأولى استمدت شرعيتها من ثورة 1952 المجيدة، وأن الثانية تستمد شرعيتها من صناديق الانتخاب، أو على حد تعبير السيد الرئيس "الشرعية الدستورية". ولكن واقع الحال أن الشعب المصري يعيش الديكتاتورية الثانية، وهي ديكتاتورية أشد فداحة من الأولى، فأن يكون العسكري ديكتاتورا، فهذا ما هيأته له طبيعة وظيفته، أما أن يكون المدني ديكتاتورا فهذا هو العجب العجاب. لم يمر شهر على السيد الرئيس حتى طلب من شعبه أن يتقي شر الحليم إذا غضب، ولم يمر أسبوع على تشكيل الحكومة حتى هدد وزير الاستثمار القنوات الفضائية بسحب تراخيصها حال ترويجها للإشاعات، دون أن يتفضل عليها وعلينا بالمعيار الذي سيحكم به على خطاب الفضائية إن كان خبرا أو تحليلا أو إشاعة. أما وزير الداخلية فقد أوضح لنا – نحن الشعب – ضرورة تشريع قوانين تكون بديلة من قانون الطوارئ، أي أنه يطلب تحويل هذا القانون الاستثنائي إلى قانون دائم يحكمنا في الأحوال العادية. هذا بينما كانت جماعة الرئيس قد سبقت بتهديد من يسيء إليه أو إليها بالسجن من سنة إلى ثلاث سنين ولو سجنوا اثني عشر مليون مصري، ولم تتفضل علينا الجماعة المنزهة عن النقد والإساءة بشرح مفهومها الشرعي للإساءة، ومتى لا تكون أكثر من قراءة لتاريخها ولأحكام القضاء التي أدانتها وأدانت أعضاءها بعمليات إرهابية استقر في ضمير القاضي قيامهم بها.. وإذن فعن أية جمهورية يتحدثون !! إننا ندخل الديكتاتورية الأكثر فداحة على الإطلاق في تاريخ العالم، فلدينا رئيس مدني أتت به الانتخابات، بغض النظر عن حكم وجود الرموز الا نتخابية عليها وعلى ناخبيها ، وهذا الرئيس ينتمي إلى جماعة دينية لا تمثل غير أعضائها دينيا وسياسيا، بغض النظر عن حزبها، فلا أحزاب تقوم على أسس دينية في الدول التي تمتلك مفهوما صحيحا للسياسة وتحترمه، وقد ورث هذا الرئيس منظومة قانونية مقيدة للحريات، وأجهزة ومؤسسات تقوم على تطبيق هذه المنظومة، وليس له ملجأ لإسناد غياب قاعدته الشعبية باعتباره – من منظور أيديولوجيته – رئيسا فئويا، إلا الاستناد إلى هذه المنظومة وإلى أجهزتها، بل ربما أضاف إليها قرارات بقوانين – حتى حضور برلمانه الغائب – تجرم عددا من صور التعبير عن الرأي، سواء قولا أو فعلا، وذلك على أسس دينية، لتمتلك وجاهتها عند الأميين – ناخبي الرموز – والجهلة السياسيين فضلا عن جماعته بالضرورة، وهنا يدخل الإسلام – دين الحرية – ليصبح أداة قمعية، بل ربما كان الأداة الأكثر قمعا بحكم التوفر التاريخي لمقدمي الفتاوى الخدمية من علماء السلطان. فهل هي جمهورية ثانية حقا، أم أنها الديكتاتورية الثانية فعلا !! الإشكال أن السادة المكشرين عن أنياب الديمقراطية وأظافرها، يتعجلون فيما يفعلون، فلم يزل الشعور العارم بممارسة حرية الاحتجاج في الشارع على حدته وعلى ممارساته، والدم الذي سال في هذه الممارسة لم يزل ساخنا لم يبرد، وشعور رفقاء الشهداء بالمسئولية الوطنية تجاه القضايا التي استشهدوا من أجلها أكثر قوة مما يتصورون، فضلا عن العيون التي قدمت قربانا على مذبح محبة مصر لم تزل في وجوه أصحابها تقبح وجوه القائمين على مشروع الديكتاتورية الثانية، وتقبح وجوه الداعين إليها والمبررين لها والراضين بها. إنهم يُكَشِّفون عن حقيقتهم مبكرا، ولا يستحون وهم يستعرضون عورات هذه الحقيقة على الشعب جهارا نهارا، كأن لم تكن ثورة، وكأن لا أحد من النظام السابق في السجن سواء كان رئيس الجمهورية وولديه أو وزير داخليته أو رئيسا مجلسيه التشريعيين أو أمين عام الحزب الحاكم، وغيرهم وغيرهم. ولئن عز عليهم الفكر السياسي، وأخذتهم العزة بتحالفاتهم، أفلا يتدبرون قوله تعالى "أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ".. وهم لن يسيروا بعيدا في الأرض، إنما فقط إلى سجن "طرة"، وليتذكروا ألا شيء على الله بعزيز، وأنهم معنيون كما سواهم بقوله تعالى : "إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ".