لا يمكن وصف القرار الذي اتخذه الرئيس محمد مرسي إلا بأنه واحد من الاختبارات العنيفة لمدى قوته هو وجماعة الإخوان المسلمين، ليس في الشارع المصري، ولكن في لعبة النخب ومراكز القوى وتركيبة المؤسسات التي قامت على اكتافها الدولة المصرية، فمن وجهة النظر البسيطة ذات البعد الأحادي يمكن اعتبار القرار صحيح، لأنه يزود الرئيس بمجلس شعب قوى يمكنه من سن وتشريع القوانين، كما أنه يعزل المجلس العسكري عن الحياة السياسية ويعيده إلى حيث يجب أن يكون على الحدود والثغور، لكن فيما يبدو أن العسكر الذين ظلوا يرددون لسنوات طويلة أنهم ليسوا ساسة أبدوا أنهم على علاقة طيبة بالسياسة وشئونها من جماعة الإخوان، هذه التي اجتمعت لمناقشة كيفية تقديم دعمها لخطة الرئيس مرسي في المائة يوم الأولى، لكنها لم تقدم له غير حل واحد، يمكن اعتباره طلبها الملح منذ تم حل البرلمان، وليس مطالب الناخبين الذين ينتظرون وزارة قادرة على تحقيق أحلامهم في الأمن والرعاية الاجتماعية والعمل وإنقاذ الاقتصاد الموشك على الكساد. في مواجهة غريبة مع كل المؤسسات الحاكمة لقانون اللعبة وجدنا د. مرسي يعلن عن خروجه على ما تم الاتفاق عليه وما أقسم يمينه الدستورية سواء معه أو عليه، دون أن يعي مخاطر هذا القرار، فالإخوان ليسوا هم القوة الحاكمة الوحيدة، بل إنهم حتى مازالوا جماعة غير معترف بها، ومازال ذراعها السياسي " الحرية والعدالة" يحتاج إلى تأكيد شرعيته بشكل قانوني، في حين أن القضاء هو الجهة الأكثر رسوخاً في التاريخ المصري، رغم كل ما يشوبها من عيوبها، فإنها على مدار التاريخ ظلت الساتر الذي يحتمي الجميع بوجوده، ومن ثم فقد مثل قرار د. مرسي ضربة صادمة للجميع، وهو ما كان ينبغي ألا يفعله، لأنه يهدم تلك المؤسسة في عيون الناس، ويتخطى شرعيتها، ويعلن لأول مرة أنه يمكن للحاكم أن يتجاهل القضاء، مما يوحي بأن هذه المسيرة لا تحتاج إلى شهور كي ينفرد بالحكم كحاكم مطلق، ولا مرجعية له غير اتفاقات جماعة الإخوان. المدهش أن قرار مرسي محى في لحظة واحدة كل التطمينات التي راح ينثرها في خطاباته، وأعلن أنه غير ملتزم بأي اتفاق عقده مع أحد، كانت رسالته شديدة الصرامة مع العسكر الذين يدركون أن خطوته الثانية نحو الإعلان الدستوري المكمل، والثالثة نحو الإطاحة بمجلس الأمن القومي، ولن يحتاجوا إلى رابعة ليجدوا أنفسهم يحاكمون بتهم الفساد وقمع المظاهرات والتواطؤ مع النظام السابق في الجمل وغيره، التهم كثيرة وعديدة وجاهزة لأي شخص، فشفيق اتهم الإخوان أنفسهم بأنهم دبروا موقعة الجمل وقتلوا المتظاهرين، ولو كان قد وصل إلى الحكم لرأينا قيادات الجماعة تحاكم على هذه التهمة وغيرها، وهم الآن يسعون لمثل هذا الفعل، ومن ثم ففكرة الخروج الآمن أصبحت منتفية بموجب هذا القرار، الخروج المشرف لم يعد مضموناً، وهو ما لن يقبله أي شخص لنفسه في أي موقع أو مكان، فما بالك بقوات مسلحة، مازالت تتمتع بهيمنة على مختلف القطاعات والمؤسسات، بدءاً من الداخلية والجيش والمخابرات وصولاً إلى الحرس الجمهوري نفسه. لا أعرف من الذي سوغ هذا القرار لدى الرئيس، ولا من الذي أفتى بقانونية هذا الحل، فالذي تحدث به لا يزيد عن كونه السنة الأولى من المدرسة الإبتدائية في السياسة، لأنه تجوز تولية المفضول في حال وجود الأفضل كما قال الإمام زيد حين سؤل عن رأيه في أن يتولي الخلافة أبو بكر وعمر رغم وجود على بن أبي طالب، لكنه لم يشأ هذا الحل السياسي، وفضل تطبيق ما تراه الجماعة حلاً عادلاً، رغم أنه يمثل اصطداماً بالجميع، ويضع تجربة الإسلام السياسي في الحكم على محك يشبه لعبة القمار، فإما أن يكسب كل شيء ( الرئاسة والبرلمان والشورى وتأسيسية الدستور، والدستور ذاته، فضلاً عن الوزارة والمحليات والمحافظين والمولات ومحلات السوبر ماركت وربما أمشاك السجائر)، وإما أن يخسر كل شيء ويعود إلى حيث كان منذ فسدت العلاقة بين العسكر والإخوان في مطلع الخمسينيات، لكن مخاطر هذه الخسارة لن تتوقف عليهم وحدهم، إذ أنها قد تجر البلاد ككل إلى إنقلاب عسكري كامل على لعبة الدستور والمؤسسات والانتخابات، قد تنتهي بعزل مرسي وإعلان الأحكام العرفية لحين وضع دستور وانتخابات جديدة للبرلمان والرئاسة، وهو الأمر الذي لن ينتهي في عام ونصف، وربما ينتهي بترشيح العسكر أنفسهم للرئاسة، أي أننا سندخل في نفق العسكرتارية من جديد، ويدخلوا هم نفق السجون كالمعتاد، هكذا تبدو المقامرة، وهكذا توقع الكثيرون، وكان بالإمكان أن يحدث فو انفراد مرسي بقراره دون مشاورة أحد غير الحرية والعدالة، لكن العسكر كانوا أكثر حنكة، وقرروا ألا ينفعلوا، وأن يستمروا في لعبة القانون والدستور والقضاء لا القدر، مؤجلين فكرة الصدام إلى ما بعد ذلك، وإن كانت الرسالة قد وصلتهم بأنه لا أمان مع الإخوان، وأن الذي وليته علينا هو الذي أمرنا بقتلك بحسب مقولة عبد الله الشيعي. لا أعرف ما هي القوى التي كان الرئيس مرسي مستنداً عليها في الواقع، هل يمكن اعتبار كلمة الشرعية والانتخابات كلمة حقيقية في هذا الصراع، هل كان يراهن على أن الغرب والأمريكان سيساندونه؟ البعض يقول أن الغرب رأسمالي، وأن الإسلام السياسي مع الرأسمالية، ومن ثم فسوف يسانده الغرب في إطار تدفق الأموال، ربما يبدو ذلك صحيحاً على مستوى عام أو عامين، لكن الواقع يقول أن الخلاف بين تيارات الإسلام السياسي وبين الغرب هو خلاف ثقافي، ومن ثم فالأمر على المستوى الأبعد من عام أو عامين لابد أن ينتهي بصدام ثقافي، صدام حضارات حقيقي، لكن هذا الصدام سيكون بعد أن تجذر مشروع الإسلام السياسي في شوارع البلدان العربية، بعد أن أصبحت خطاباته أكثر هيمنة وقوة وقبولاً، وقد تطالبه جماهيره بالتوسع الخارجي، بمساندة المسلمين في الخارج، بنصرة دين الله من اليهود والكفرة الملاحيد، ولن يكون أمام قادة هذا التيار سوى المزايدة على بعضهم البعض، كسباً للرأي العام، وفي المحصلة سيجد الغرب نفسه مضطراً للتدخل سواء الاقتصادي أو الحقوقي أو العسكري، هكذا يصبح الصدام حتمياً وبتكلفة أكثر فداحة. في ظننا أن الغرب كان مجبراً مثله مثل العسكر على قبول إعلان مرسي رئيساً، وقد وافق الأخير على كل ما يرضي جميع الأطراف، في مقدمتها إسرائيل التي أكد في خطاباته لها أنه سيحترم المعاهدات الدولية، وفي نهايتها السعودية التي لا تحب الإخوان، والتي أرسل لها بهدية لا تجوز من رجل منتخب بعد ثورة، رجل خرج من السجن بسبب الثورة، وحكم باسم الثورة، لكنه قال أن مصر لا تصدر الثورة، رغم أنها على مدار تاريخها في الجمهورية الثانية لم تصدر شيئاً يمكن الاحتفاء به غير الثورة، فجاءت حركات احتلوا وول ستريت وغيرها على نفس نهج الثورة وميدان التحرير والسلوك الحضاري الثقافي المصري، فكيف يكون أول قرار له إلغاء تصدير الثورة، ربما هي السياسية، وربما هي التطمينات، فلدينا اقتصاد على وشك الإفلاس، ولدينا بطالة تزيد عن عشرة مليون، ولدينا قضايا ملحة لا تستدعي عنترية أو شعارات رنانة، لكن ذلك كله ذهب أدراج الرياح، ولم يبق سوى أو يجبر الرئيس مرسي على سحب قراره، ولكن بعد أن يكون قد خسر ثقة الجميع، وأهل جماعته لمقصلة السجون والخروج من اللعبة السياسية إلى الأبد، لأنها لعبة ذات قانون مستتر، قانون يشبه اللوح المستور، قانون لا يجوز فيه الخطأ، لأن الخطأ الواحد يعني الموت إلى الأبد.