منذ عيد دخول السيدة العذراء مريم الى الهيكل نبدأ بترتيل المسيح ولد فمجدوه، ننتظر المولود الجديد، ومنذ عيد القديس الشهيد اغناطيوس الأنطاكي في 20 ديسمبر يقوى اتجاه الصلوات الى العيد، وعشية الميلاد نقيم البارامون وهو الوقفة الروحية والانشادية لاستقبال المخلص، الكنيسة تشدنا الى الفادي الآتي طفلًا لينمو بيننا كواحد منا . كيف نستعد له؟ هذا هو السؤال الكبير، فهل يكون العيد لنا مجرد ذكرى نقيمها مع اطفالنا بالهدايا والطعام والشراب والرموز المستوردة التي اخذنا نألفها ام نصبح اعمق من ذلك فيصير القلب هو المذود والتوبة هي الرؤية والتجدد هو القرار والالتزام. غير ان أهمية هذا العيد ليست في العيد نفسه ولكن بمعناه فهو إطلالة الله علينا بموسم وبغير موسم، فالحياة فيها الحزن الشديد والإخفاق يتلو الإخفاق وفيها الخطايا الكثيرة. قد لا يشتهي الأكثرون التقدم في الصلاح وقد لا يتمنى الأكثرون الكمال وربما لا يتحرك العديدون بفكرة المحبة ولا يحلمون بتحقيق الفضيلة فيهم. ولعل الجرح البليغ ليس في هذا ولكنه في اننا ننظر الى الكنيسة في حالها الحاضرة ولا نرى انها تغيرت بالقدر الكافي الذي يغيرنا؛ فالضعف في كل مكان وكذلك الكسل والجهل وإرادة البقاء في الجهل. اللاهوت يقول ان الكنيسة مدخل الى الملكوت، بأي معنى؟ اعضاؤها فيهم ملكوتيون، واللاهوتيون المدركون عمق الارثوذكسية يقولون أن الذي الله يسكن بداخله هو وحده ينتمي الى الكنيسة، اما الباقون فقد اختاروا ان يعيشوا بلا إله ولو حضروا قداسا او عمّدوا اطفالهم او تناولوا إكليل العرس. عيد الميلاد يقترب، مَن حَفظَ هذا الصوم تهيأَّ له، ومن لم يحفظه حتى الآن فليبدأ اليوم، وفي كل حال نستطيع جميعا ان نتجه الى المولود بحيث لا نترك صلاتنا ولا سيما صلاة الجماعة ايام الآحاد المتبقية وبحيث ننصرف الى قراءة الكلمة. اما اذا جاءكم العيد زينةً لبيوتكم فقط او فرصة للمآدب وظهور اطفالكم بالثياب الجميلة تكونون قد عَبَرتم عن فقير الناصرة الى تأمل وجوهكم ومنازلكم واصدقائكم، يكون، إذ ذاك وُلد المسيح لمن يتقبله في البساطة والانكسار. اذكروا ما قاله الملاك للرعاة: "ولد لكم اليوم مخلّص في مدينة داود، وهو المسيح الرب"، فهل ولد لك انت شخصيا، ام الحادثة تخص البشرية بمجملها وانت غير معني؟ هل انت ملتزم الميلاد باعتباره عيدك الشخصي؟. كثير من ايقونات السيدة العذراء حاملة الطفل تصوّرها محاطة بالأنبياء الذين تكلّموا بأسلوب او بآخر عن انتظار المخلّص "ها العذراء تحبل وتلد ابنا" الواردة في متى انما اقتبسها من اشعياء النبي. فالإنجيل يركّز على ان العهد القديم ("موسى والأنبياء والمزامير") تحدَّثَ بالرموز عن السيد، غير أن الكنيسة رأت أن العهد القديم ليس وحده الذي يهيئ لاستقبال السيّد ولكن الانسانية كلها. لذلك وضعت أحدين تحدّثنا فيهما عن تمخّض الإنسانية بيسوع الناصري: أحد الأجداد وأحد النِسْبة، في أحد الأجداد تذْكر الإنسانية من قَبل إبراهيم، اي انها لا تحصر المسيح في أمّة اليهود، و آدم هو أبو الانسانية جمعاء، والفكرة المسيطرة على أحد الأجداد أن البشرية كلها كانت تنتظر مخلّصا، البشرية كانت تطلب تطهّرا وإنقاذا، هذا لم يصر واضحا إلا بالمسيح ولم يُنفَّذ إلا بالمسيح. القلب التائب هو الذي يحتضن المسيح. ولذلك أَلِفَت الأجيال المسيحية ان تُنهي صيام الميلاد باقتبال سر التوبة، القلب ينبغي أن يصير مريمًا أخرى، كما يقول القديس مكسيموس المعترف. كيف نسمع ان قبعنا في بيوتنا صباح العيد ولم نشترك في الذبيحة الإلهية؟ مسرات الدنيا، سهرة العيد، زينته ليست هي العيد، الأضواء الكهربائية في البلد ليست هي العيد، من أحب هذه الأشياء فلتكن له، ولكنها خارجية. العيد هو يسوع الذي نسمعه ويخاطبنا ويضع فرحه فينا. هناك شيء آخر يلازم العيد وهو ان يسوع كان صغيرا، كيف نترجم ذلك لأنفسنا؟ ليس في كنيستنا ابتهاج خاص بالأطفال، ولكن الذين جعلهم الله همه هم صغار النفوس، الأذلاء الفقراء المعذبون، هؤلاء يلازمهم الطفل الإلهي، يحملهم في قلبه. ماذا نعمل نحن لنعزي المنكسري القلوب، المتروكين في الأرض الى عزلتهم، الذين لا يتمتعون بدفء العاطفة؟هذا هو العيد الذي يدفعنا إلى أن نسعى إليهم. الميلاد تربيتنا على المحبة، هذه تمارسها في الحقيقة حولك، كل يوم، بدقة وفي رقة يسوع حتى يشعر كل هؤلاء انهم اخوة له، اي مخلوق تحتضنه انت احتضانا صادقا وفعالا تجعله يحس بأنه ليس بعيدا عن المسيح. جاء المجوس الذين "فتحوا كنوزهم وقدّموا له هدايا ذهبًا ولبانًا ومرّا"، واللافت في سجود المجوس له انهم كانوا من عظماء القوم، ملوكًا او علماء، ان احتسبوك أنت كبيرًا في قومك او كنتَ مثقّفًا عميقًا فلستَ على شيء ان لم تكتسب تواضع المسيح، ان لم تقتنع انك به تتكوّن، ان لم تحاول أن تبلغ "فكر المسيح". ما عداه غواية ولو كانت مجدًا ساطعًا او علمًا غزيرا او جمال جسد. كل شيء يفنى أمام هذا الطفل الصغير المرمي في مذود. انه صنع مجده بدءا من هذا الوضع الحقير. وقد شرح ذلك الملائكة للرعاة: "المجد لله في العلى". ما عدا ذلك أمجاد يصطنعها الناس ليعظموا في عيون الذين يشبهونهم او من كانوا أدنى منهم. لن تدخل سرّ المسيح ما لم تنزل عليك مزاياه، فإذا تمسحَن قلبك تدرك ما في قلبه، وعند ذاك يصير فكرك مسيحيا اي انك تصير في حدود بشريتك مستضيفا المسيح، بهذا تعرف انك وُلدتَ من السماء، فإذا ظهر عليك بمجده ورأى الناس وجهك مضاء بنعمته يحسّون وكأنهم رأوا وجه المسيح، ان أردت ذلك كان لك ميلاده ميلادا لك كل يوم، وكانت كل سنة لك سنة جديدة.