الطب البيطري بدمياط: ضبط 88 كيلو لحوم مذبوحة خارج المجازر الحكومية    النجمة الفرنسية ماريان بورجو : محمود حميدة عملاق وأنا من جمهوره    أبطال فيلم لعل الله يراني: العمل يحارب زيادة حالات الانتحار    نقيب الإعلاميين يهنئ الرئيس السيسي بذكرى نصر أكتوبر: يجسد إرادة المصريين وعزيمتهم    7 معلومات عن تطورات مشروع رأس الحكمة التنموي    حياة كريمة ببنى سويف: مبادرة بيع اللحوم بأعلى جودة وأقل سعر تحارب الجشع    شركات عالمية ومصرية وإماراتية.. تفاصيل إطلاق شراكة لتعزيز الابتكار في المركبات الكهربائية الذكية    «الجمارك» تكشف موقف سيارات المعاقين الجديدة غير المفرج عنها    قوات الاحتلال تمنع دخول شاحنات المساعدات إلى قطاع غزة    المرصد العربي يناقش إطلاق مؤتمرًا سنويًا وجائزة عربية في مجال حقوق الإنسان    مستوطنان إسرائيليان يقتحمان المسجد الأقصى ويؤديان طقوسا تلمودية    الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل عسكريين اثنين في معارك جنوب لبنان    الصليب الأحمر: الشرق الأوسط على شفا صراع مسلح    ذا صن: ريال مدريد يتحرك بجدية للتعاقد مع أرنولد قبل نهاية عقده مع ليفربول هذا الصيف    مصدر من نادي دلفي ل في الجول: إلغاء مباراتنا أمام إنبي في دوري السيدات بسبب أكاديمية الأهلي    رئيس جامعة المنوفية يثمن تكريم الرئيس السيسي لأوائل الخريجين | صور    مصرع شخصين في حادث تصادم بالغربية    «الداخلية» تحرر 591 مخالفة «عدم ارتداء الخوذة».. وتسحب 1536 رخصة بسبب «الملصق الإلكتروني»    جامعة حلوان تطلق "أسبوع الخدمة العامة" لتعزيز الانتماء الوطني لدى الطلاب    أعضاء حزب العدل في المحافظات يتوافدون للتصويت في انتخابات الهيئة العليا    القومي للسينما يعرض فيلم المحارب أحمد بدوي بأمسية يوم النصر    «الموسيقيين»: ما جاء في مسلسل «تيتا زوزو» إهانة لأبناء المهنة    بعد كمائن جنوب لبنان.. أسلحة عبوة سجيل بطلة حروب الكمائن    الشوط الأول.. الأهلي يتقدم على الزمالك في أول قمة تاريخية لكرة القدم النسائية المصرية    رهبنة مار فرنسيس للعلمانيّين في لبنان... منتسِبة تروي اختبارها الروحانيّ    واعظ بالأزهر: الله ذم الإسراف والتبذير في كثير من آيات القرآن الكريم    مصرع «طالب» غرقا في نهر النيل بالمنيا    مصرع شاب وإصابة آخر في حادث تصادم بالغربية    «وما النصر إلا من عند الله».. قافلة دعوية ببني سويف تزامنًا مع احتفالات أكتوبر (صور)    جيفرسون كوستا: أسعى لحجز مكان مع الفريق الأول للزمالك.. والتأقلم في مصر سهل    الأنبا توماس يستقبل رئيس وزراء مقاطعة بافاريا الألمانية    وزير الاتصالات يلتقي مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة للتكنولوجيا    وزارة الثقافة تحتفي بنصر أكتوبر على مسرح البالون    تامر حسني وابنه يظهران بالجلابية البيضاء: «كنا بنصلي الجمعة»    «حياة كريمة» تواصل توفير اللحوم والدواجن بأسعار مخفضة.. ننشر نقاط التوزيع    «جولة مفاجئة وتفتيش بالمخازن».. وكيل صحة مطروح يحيل مشرفي تمريض بمستشفى للتحقيق    منظمة الصحة العالمية تحذر من خطر انتشار فيروس ماربورغ القاتل    سلوت: اسألوني عن عقد صلاح بعد التوقف الدولي    "الإنجاز له طعم خاص".. يحيى الدرع يعلق على الفوز بكأس العالم للأندية    خبير: بعض اتهامات القرصنة بين أمريكا والصين غرضها «الدفاع»    الإسكان: إزالة مخالفات بناء وظواهر عشوائية بمدن جديدة - صور    عادل حمودة: أحمد زكي كان يندمج في التمثيل إلى درجة المرض النفسي    السيطرة على حريق بخط غاز زاوية الناعورة بالمنوفية    أذكار يوم الجمعة.. كلمات مستحبة احرص على ترديدها في هذا اليوم    بالصور- ضبط 4.5 طن لحوم ودواجن فاسدة بالمنوفية    عاجل.. أول رد من الأهلي على عقوبات مباراة بيراميدز.. طلب خاص لاتحاد الكرة    حملة للتبرع بالدم في مديرية أمن البحر الأحمر لإنقاذ حياة المرضى    ضمن «حياة كريمة».. فحص 1703 مواطنين في قافلة طبية ببني سويف    فحص 1703 مواطنين في قافلة طبية ببني سويف    في يوم الابتسامة العالمي.. 5 أبراج تحظى بابتسامة عريضة ومتفائلة للحياة    «وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ».. موضوع خطبة الجمعة اليوم    هيئة الأرصاد تكشف عن موعد بدء فصل الشتاء 2024 (فيديو)    أسعار الفراخ البيضاء في بورصة الدواجن اليوم الجمعة 4-10-2024    لازم يتجوز.. القندوسي يوجه رسائل إلى كهربا لاعب الأهلي (فيديو)    هل يجوز الدعاء للزواج بشخص معين؟ أمين الفتوى يجيب    دعاء أول فجر في ربيع الثاني.. «اللهم بارك لنا في أعمارنا»    رسمياً.. فتح باب تسجيل تقليل الاغتراب جامعة الأزهر 2024 "الرابط الرسمي والخطوات"    حقيقة اغتيال هاشم صفي الدين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحلقة الأخيرة: رواية المهزوم.. أسرار "الغرف المغلقة" ل"آلهة الصحافة"
نشر في البوابة يوم 12 - 12 - 2015

كان المعتاد أن تدفع المؤسسة تكاليف الرحلة متضمنةً السفر على مقاعد الدرجة السياحية، لكن الطبيعى أن تكون هناك استثناءات، أو هذا ما كان يحدث طوال الوقت، فقد كان إسماعيل يصطحب معه دنيا، رغم أن طبيعة عملها لا علاقة لها بالسينما، ولا بالمهرجانات، لكنه كان يجد لها المبرر الذى تصرف به بدل السفر، وحضور المهرجان، فقد كان يريدها معه، وكانت هذه فرصتهما السنوية للبقاء معًا، وحدهما، عشرة أيام بلا اجتماعات، ولا أخبار، ولا تقارير.. ولا رقابة أبيها ذى النفوذ، والعلاقات الواسعة فى دوائر السلطة.. فقط هى السينما، والعشاءات الراقصة، والهواء البارد الذى يطلب دفئًا.. وعندما طلبت منى ناهد أن أوفر لها هذه الفرصة، كان لا بد من الاستجابة، فلم تكن رحلتها مع الرئيس العربى قد ذهبت إلى أركان الذاكرة بعد.
وفى مقهى «معروف»، قيل إن أبوبكر لم يجد أى صعوبة فى إقناع إسماعيل بتحمل المؤسسة تكاليف رحلتها على مقاعد الدرجة التى يفضلها، والطائرة التى تستقبل عملاءها بكأس بارد من أحد ثلاثة مشروبات، تناولت دنيا منها كأس عصير البرتقال، وتناولت ناهد كأس النبيذ الأبيض، وبقى كأس الشمبانيا للرجل الذى توسط الجميلتين، واستسلم لنوبة الكلام التى فتحتها ناهد.
لم يزعجها، أو يؤثر فى خططها وجود دنيا بالمقعد المجاور له، فلم تكن من عاداتها أن تسمح لشيء بالوقوف بينها وبين ما تريد.. أو يفسد عليها متعة الفوز بالصيد الثمين.
فى الطائرة، لم تترك لرفيقيها فرصة الانفراد بحديث، ولو بكلمات عابرة، ولو بشأن موضوعات تخص العمل، لكنها نجحت فى اقتناص اللحظة التى تدرك أنها مصدر الارتباك، ربما لم تزد على ثوان ذهبت خلالها دينا إلى حمام الطائرة، لكنها كانت لتسأله مباشرة عن أفضل سهرات يمكن قضاؤها فى برلين، ولتسر إليه بأنها ليست عذراء كما يظن من يعرفون أن طلاقها تم قبل أن يدخل بها مراد، مؤكدة: ويا ليته دخل.
ولتسأله عن شعور الرجل عندما يفض بكارة امرأة، ليفاجئها بأنه لا يعرف، فلم يسبق له أن فعلها.
كانت هذه إشارة بشأن علاقته بدنيا، التى لم تتجاوز عامها الخامس والعشرين، وبشأن ما يمكن أن يحدث بينهما فى عشرة أيام.
قالت إنها لا تزال بانتظار ليلتها الأولى، ثم نظرت فى عينيه مباشرة وهى تهمس بأنه يبدو أن السماء قد ادخرت لها ليلة أجمل من تلك التى كانت العادات والتقاليد تلقى بها إليها.
سألته عن برنامجه المعتاد فى تلك الرحلة، فقال إنه غير محدد، فيما عدا قضاء ساعات فى منزل السفير فى الليلة الأولى، تليها الحرية الكاملة.
وفى منزل السفير، كانت هى، وكانت دنيا.. وإسماعيل.
ربما كان هناك محررون وكتاب وصحفيون من معظم المؤسسات المصرية، أو عاملون بالسفارة، أو رجال أعمال.. ربما كان هناك مخرجون وممثلات وممثلون من نجمات ونجوم السينما المصرية.. وربما كان هناك آخرون لا يعرفونها، ولا تعرفهم.. ولا تريد.. لكنها لم تر فى الحديقة الواسعة غير ما أرادت منذ لحظة دخولها بصحبة مراد، الذى جاء قبلها بيوم على مقاعد الدرجة السياحية لطائرة «مصر للطيران»، كبقية الصحفيين الذين جاءوا لتغطية المهرجان على نفقة مؤسساتهم.
ربما لم تكن الأحاديث التى دارت من حولها هى تلك الأحاديث التى أرادت، لكنها لم تستطع أن تفلت من الاهتمام بها، والتركيز فى أهميتها، إن كانت تريد الوصول إلى سلم النفوذ، لكنها لم تدع رأيًا يفلت منها، أو يفر من مدى سمعها، خصوصًا ذلك الحوار الذى حاول السفير أن يجريه على انفراد مع إسماعيل، وظلت حاضرة، ومنصتة إليه، بحجةٍ أو بأخرى.
سأله السفير عن رأيه فيما يحدث فى مصر، وكواليس الصراع بين رئيس مجلس الشعب، ووزير الداخلية. تحدث عن لا منطقية أن تدور معركة مثل هذه، بينما لم يكمل رئيس الجمهورية عامه الخامس فى السلطة، وقال إنها فيما يبدو معركة شرسة، وتشهد تفاصيل خطيرة داخل كواليسها.. وسأله إن كان من الطبيعى توقيف شقيق رئيس البرلمان، الذى يمثل سلطة الشعب، هكذا، أمام كاميرات الصحف، ووسائل الإعلام، فقال إسماعيل «إن هذه هى الديمقراطية التى أرادها السادات، ويريدها مبارك، فلا أحد فوق المساءلة.. ولا أحد فوق القانون».
وقال: «ربما تكون لدى البعض تحفظات على شخصية الوزير، والإجراءات التى اتخذها فى عام ونصف، أو يزيد قليلا، خصوصًا أنه بدأ بحرب شرسة ضد الجميع»، فقال السفير «إن أخطر أعدائه الآن لا بد أنهم تجار المخدرات الذين أعلن الحرب عليهم، وبدأها بالفعل».. لتعلو الضحكات على وجوهٍ ساهمة، لا تقر من وطأة التفكير فى مسار الأحداث التى لا تكاد تستقر حتى يظهر ما يعيدها إلى المربع الأول.. حتى وإن كنت سفيرًا، أو رئيس مجلس إدارة واحدة من كبرى المؤسسات الصحفية الحكومية، فعليك التفكير فى مثل هذه الظروف فى الاحتماء بفصيل من فصائل الحرب التى بدأت مبكرًا، إذ لا معنى للحياد، ولا مكان لمحايدٍ فى الصفوف الأولى.. وحدهم قادة الحروب المنتصرين، وأنصارهم، يحصلون على الغنائم، ويوزعونها.
مع خفوت صوت الضحك.. جاء الشرود بحثًا عن أى الفصائل ينبغى اللجوء إلى ظلها.. والبحث عن أيها أقرب إلى حسم المعركة لصالحه.. ليأت صوت ناهد بالسؤال الذى أراد كل منهما طرحه على رفيق السهرة منذ البداية، وآن أوانه.. وجهت كلامها إلى السفير متسائلة:
- إلى أى طرف تظن أن تميل رئاسة الجمهورية فى مثل هذه المعركة؟.. فالرئيس فى النهاية هو الحكم بين السلطات.. أم تظن أن المسألة ربما تنتهى بحل مجلس الشعب وإقالة الوزارة؟
سؤال لم يكن مباغتًا، لكن مصدر الدهشة التى ملأت وجه إسماعيل هو صاحبة السؤال التى كان يظن أنها لا تعرف شيئًا عن قواعد لعبة السلطة فى مصر، أما السفير فقد أعاد السؤال إلى وجهه علامات الضحك التى ملأته، بلا شرودٍ هذه المرة، وقال:
- ليس إلى هذه الدرجة.. لا أظن أن مبارك من النوعية التى تميل إلى الصدام، أو مفاجأة الخصوم، أو المبادرة باتخاذ قرارات حاسمة، حتى وإن كان يملك كل السلطات فى يده.. لا أتوقع أبدًا أن يصل الأمر إلى هذا الحد.. ولكن.. بما أنه سمح ببداية المعركة، واستمرارها فلا بد أن وراء الأمور أمورًا.. وفى مثل هذه الأمور تكون الحاجة ملحة إلى تحليلات خبير، مثل الأستاذ إسماعيل، هو وحده من يمكن أن يقول لنا ماذا يدور فى عقل الرئيس.
وضع إسماعيل كأسه جانبًا، وظهر الجد على وجهه، وهو يقول بهدوء شديد:
- قبل أن نسأل عما فى عقل الرئيس، علينا أن نلقى نظرة أوسع على عناصر الصورة التى أمامنا.. وهى جميعًا تشارك فى المشهد بقوة.. لدينا الجيش، والبرلمان، والإعلام، والداخلية.. هذه هى عناصر معادلة القوة والنفوذ فى مصر الآن.. ولكى تعرف أين تنتهى أى معركة بين أطراف هذه المعادلة، يجب أن تعرف انحيازات كل منها أولا.
قال السفير:
- هناك أيضًا القضاء ورجال الأعمال الذين يعودون الآن بقوة، ويمثلون طرفًا لا يستهان به.
فقال إسماعيل حاسمًا:
- لا لا لا لا.. القضاء انتهى، أو قل إنه لم يعد طرفًا فاعلًا فى هذه المعادلة منذ منتصف السبعينيات. ويمكنك أن تقول إنه منذ أن فتح السادات الطريق أمام رجال الشرطة للانتقال إلى مقاعد القضاة، أصبحت السلطة القضائية جزءًا من وزارة الداخلية.. ربما تكون طرفًا، لكن انحيازها، حسبما أظن، محسوم تمامًا، وواضح جدًا.. أما رجال الأعمال، فعلى رأى صديقنا الكبير إحسان عبدالقدوس.. ههههههههههه «يا عزيزى.. كلهم لصوص».
عاد السفير إلى مربع السلطة الأول: عفوًا، ولكنى أظن أن الإعلام أيضًا ليس بهذا الاستقلال، أو القوة التى ترفعه إلى جانب الجيش والداخلية والبرلمان.. لكن دعنى أسأل.. إلى أى جانب يميل الإعلام فى تصورك؟
لم يرفض إسماعيل رأى رفيقه بشأن قوة الإعلام، ولم يبد عليه أى علامات للتقليل منه، وقال مؤكدًا:
- فى هذه المعادلة، وفى غيرها، لا أحد يتوقع أن يتخذ الإعلام جانبًا مخالفًا للجيش.. لا تنس ياصديقى أننا ما زلنا دولة عسكرية، ولدينا جبهات قتال لا تزال مفتوحة، حتى وإن وقعنا عشرات الاتفاقيات.
قال السفير:
- ولكن الجيش خارج هذه المعركة.
فضحك إسماعيل قائلًا:
- ربما.
لتعلو الدهشة وجه السفير الذى ردد خلفه متسائلًا:
- ربما؟!.. كيف؟!
فقال إسماعيل الذى كانت الخمر التى ظلت ناهد تمده بها طوال السهرة قد أثقلت لسانه:
- يا صديقى.. لا توجد معادلة فى إحدى دول العالم الثالث دون أن يكون الجيش طرفًا فيها.. وأنت أيها الدبلوماسى الماكر أدرى الناس بمثل هذه الأمور.. فلا تدعى عليَّ.. أرجوك.
ثم نظر إلى ناهد وهو يميل بصوته ناحية الخفوت مضيفًا: ولا تفسد على هذه الجميلة سهرتها بأحاديث السياسة، والمؤمرات، والمعارك التحتية.. فهى لم تأت إلى برلين من أجل هذا.
ضحك السفير وقال:
- ليكن للجميلة ما جاءت من أجله.. ولتكن السينما وحكايات النجوم.
لم يلتفت إسماعيل إلى أن دنيا كانت قد غادرت الحفل دون سلام أو كلام، فقد كانت ناهد تملأ المشهد بفستانها الأصفر بلا شائبة تحد من حضوره، أو قدرته على خطف الأنظار، وشالها الأخضر الشفاف، يستقر قليلا فوق كتفيها العاريتين، ويغادرهما معظم الوقت، فتجده أحيانًا معلقًا فى حقيبة يدها كما تفعل إليزابيث تايلور، وأحيانا تجده وقد تحول إلى ما يشبه رابطة العنق التى كانت تتقنها ريتا هيوارث أو فيفيان لى.. وكما لم يغادر إسماعيل بصرها، ولم تدع كأسه تفرغ، لم تغادر دينا مرمى نظرها طوال الحفل إلا بانصرافها منه.. عندها مالت على أذنى إسماعيل تسأله بجدية ظاهرة:
- ألم ينته وقت المجاملات والرسميات بعد؟!
فضحك وهو يرى تلك النظرة الماكرة فى عينيها اللتين غلبهما السُّكرُ إلا قليلا.
سألته:
- ماذا كنت تقصد بحكاية المعارك التحتية؟
فسألها:
- ماذا تريدين أيتها الماكرة؟!
تأبطت ذراعه وهى تهمس بغنجٍ لم يختبره من قبل:
- ليلتى.. أريد ليلتى التى ادخرتها السماء لى.
ليجذبها من ذراعها باتجاه الخروج دون أن ينطق بكلمة، ودون أن يسألها عن أى المعارك جاءت تبحث فى برلين.
تسع ليال كانت فى انتظارها، لا ليلة واحدة، ولا عشرة، كما كانت تظن، أو حسبما كان ينبغى لها أن تكون، فقد فوجئا فى الليلة قبل الأخيرة، وبينما يهمان ببعضهما، بهاتف غرفته بالفندق يوقف ما هما به.
كان أبوبكر على الطرف الآخر يطلب منه سرعة العودة إلى مصر، فى أقرب وقت ممكن، ولو خلال ساعات.
قال له إن الوزير يريده أن يكون فى مكتبه منذ ساعات الصباح الأولى.
وقال إنها لحظة الحساب، فقد وصلت المعركة إلى ذروة لا ينبغى أن يكون خارج دوائرها.
¿ ¿ ¿
فى برلين.. كانت نسمات باردة تصافح وجه ناهد التى وقفت عارية تمامًا خلف ستارة النافذة العالية، تراقب العابرين بالميدان الواسع مع خيوط المساء تنسحب خفيفًا لتفرش ظلالها على الشوارع.. وبخطوات راقصة على إيقاعات المقدمة الموسيقية لأغنية «نبتدى منين الحكاية»، رائعة محمد عبدالوهاب وعبدالحليم حافظ، التى اعتادت منذ دخولها من باب المؤسسة أن تستقبل بها ساعات الصباح، وتحتفظ بتسجيل خاص بها، يعيد الموسيقى كلما بدأ الغناء، تحمله معها أينما ذهبت، وفى كل مكان.. حملت منشفة الحمام البيضاء العريضة، ثم فردتها بطول ذراعيها خلف ظهرها، وأخذت تدور فى باحة الغرفة الواسعة الفاخرة.. كانت بهجتها بلا حدود، وشعورها بالانتصار فى معركتها مع الحياة يملأ سماء العاصمة الألمانية.
وفى القاهرة، بينما كانت الطائرة الألمانية تحط عجلاتها على أرض المطار، كانت الأتربة، والدخان يتصاعدان عند حدود المدينة الكبيرة، من أقصى جنوبها إلى أقصى الشمال.. وكان جنود الأمن المركزى قد بدأو للتو ثورة غضب لا يعرف أحد من أشعلها، ولا من يقف وراءها، ولا إلى أين تنتهى.
كانت ملامح الدمار والتخريب هى أول ما التقطته عين إسماعيل وجدى على طول طريق المطار، فلم يشأ الذهاب إلى منزله، بل اتجه مباشرة إلى مكتبه بالمؤسسة.
بمجرد استقراره بالمقعد الخلفى للسيارة الفاخرة، أخرج ساعته الجديدة التى اشتراها قبل ساعات من العاصمة الألمانية، لفها حول معصمه، وتأمل ألوانها، وشكل عقاربها، قربها من أذنيه يختبر صوت تكاتها، ثم طلب من سائقه الخاص، أن يخبره قبل أن يتحرك، بما يحدث فى القاهرة، فقال إن الإذاعة والتليفزيون لم يتحدثا عن أى شيء غير طبيعى، لكن البعض يقول إن جنود الأمن المركزى فى عشر محافظات، بدأوا إضرابًا فى وقت واحد، بسبب انتشار شائعة بمد سنوات خدمتهم إلى أربع سنوات، بدلا من ثلاث، وهناك صحفيون يقولون إن الجنود تحركوا من معسكراتهم فى السادسة مساء، وقطعوا الطريق الصحراوى لمسافة تزيد على الكيلومتر.
طلب أبوبكر على هاتف منزله، ليجده لا يزال مستقيظا منذ محادثتهما على هاتف الفندق البرلينى.. قال له إن حالة من الاستياء والتذمر سرت بين الجنود، وتصاعدت إلى ثورة انتشرت فى كل المعسكرات.. من الهرم إلى الهايكستب، إلى طره التى تشهد أسوأ المواجهات، وقال له إن الجنود الغاضبين قاموا بتدمير كل ما طالته أيديهم من ممتلكات خاصة وعامة.. وقال إن الموجة الأشد عنفا بدأت عندما خرج آلاف الجنود من معسكر بمنطقة الأهرامات، مندفعين إلى فندق «جولى فيل»، المواجه له، فحطموا الواجهات الزجاجية، ثم اقتحموا الفندق، وحرقوه كاملا. اتجهوا بعدها إلى فندقى «هوليداى سفنكس»، و«ميناهاوس» فأشعلوا فيهما النيران، لينطلقوا إلى قسم شرطة الهرم، والمحلات التجارية الكبيرة بالمنطقة.
قال إنه خلال ساعات استطاع الجنود احتلال منطقة الهرم بأكملها بما فى ذلك مداخل طريق الإسكندرية الصحراوى وطريق الفيوم وترعة المنصورية، بعد أن فشلت قوات الشرطة فى وقف زحفهم.
وفى ركنٍ هادئ تمامًا من العاصمة الغاضبة، وتحديدًا فى حى مصر الجديدة، التى لم تصلها أى أخبار عما كان يجرى على بعد كيلومترات قليلة، كانت دنيا التى غادرت العاصمة الألمانية قبل ثلاثة أيام دون أن يشعر بغيابها أحد، تغلق باب حجرتها عليها، ترفض الكلام والطعام، أو مجرد الاقتراب من باب الحجرة الموصدة، وكان والداها يستمعان بإنصاتٍ إلى طبيب الأمراض العصبية والنفسية الشهير، والمقرب من العائلة، وهو يشرح لهما أنها لا بد قد مرت بتجربة عصبية عنيفة، وأنه فى مثل هذه الحالات ينبغى الابتعاد عن أى مؤثرات قد تكون لها علاقة بما حدث، أو تعيد إليها ذكرى تفاصيل لا تريد أن تتذكرها.
قال إنها مسألة مؤقتة، حتى يتم اكتشاف حقيقة ما يحدث، وبعدها يمكن البدء فى علاجها.
وقال إنها فى عيادته الخاصة لن تشعر بأى منغصات أو مضايقة. لن تشعر بالأساس أنها فى رحلة علاجية، ولهذا فليس هناك ما يدعو إلى إبلاغها بحقيقة المكان الذى سوف تذهب إليه، لأنه أقرب إلى المنتجع الخاص منه إلى المصحة النفسية، حيث الغرف الفندقية المريحة، والحدائق تحيط بها من كل الاتجاهات، ولا يدخلها إلا خاصة الخاصة.
فى برلين، كانت ناهد على الهاتف تنصت إلى إسماعيل الذى وجد فسحة من الوقت لكى يطلب من الحاج ثروت، ساعى ومدير مكتبه، إبلاغ السكرتارية بالحجز لها على أقرب طائرة عائدة إلى مصر، ومنها أن تبدأ فى حزم حقائبها، والعودة.. دون شرح، ودون أى أسئلة.
لم تناقشه، ولم تسأله.. فقط هى «حاضر»، كل ما كان لديها، وكل ما ردت عليه به.
وضعت سماعة الهاتف باستمتاع لا حدود له، وكأنها تطبع قبلةً على جبين الحياة، ثم توجهت بخطى متثاقلة إلى الثلاجة الصغيرة، حيث أخرجت زجاجة نبيذ صغيرة الحجم.. فتحتها بتمهلٍ يليق بمقام النشوة الذى كانت تسبح فيه طوال لياليها التسع فى أحضان رجلها الأخير.. مررت فتحة الزجاجة تحت أنفها باستمتاع.. رشفتها بتلذذ، وهى تستلقى بعرض الفراش.
دقائق معدودة، تحول خلالها مكتب إسماعيل وجدى بالمؤسسة إلى غرفة عمليات بالمعنى الكامل للكلمة.. فبينما كان يتلقى تعليماته من وزير الإعلام بما يجب كتابته فى صحف الغد، كان أبوبكر يتابع الموقف، وتطورات الأحداث مع رئيس مجلس الوزراء، وأمين الحزب الوطنى من هاتف آخر، فيما انشغل هاتف ثالث بحالة إنصات وانتباه شديدين ترتسمان على وجه ربيع النحاس الذى كان يستمع إلى تصورات أحد المقربين من وزير الدفاع فيما يخص تحركات الجيش لاحتواء الموقف، وما يمكن أن يؤدى إليه ذلك من تداعيات.
قال أبوبكر وهو لا يقدر أن يمنع نفسه من الضحك إن ضابط حراسة الوزير تلقى أول إشارة بالأحداث عندما كان يستعد للذهاب إلى مكتبه، فذهب بنفسه إلى المعسكر، متصورًا أنه سوف يحتوى غضبهم، وبمجرد وصوله إلى المعسكر أصابه حجر بجرح قطعى فى جبهته.. وقال إن الوزير أكد لمن قابلهم من الجنود إن الشائعة كاذبة تماما، ولا يوجد أى مبرر لها، وأن مدة التجنيد لا تحددها وزارة الداخلية، ولا علاقة لها بها، لأنهم فى الأصل يتبعون القوات المسلحة.
قال وهو يعاود الضحك إن الوزير وعدهم بلقاء للاستماع إلى شكواهم صباح اليوم التالى، وعاد بسيارته سعيدًا بقدرته على احتواء الأزمة بمفرده، قاصدا محافظ الجيزة بأول شارع الهرم لإبلاغ الرئاسة بتفاصيل ما حدث، فبادره قائلا: «لا بد من استقالة أحدنا الآن.. إما أنا أو أنت»، فتعجب منه، ثم طلب رئاسة الجمهورية لإبلاغ الرئيس بما حدث، وما اتخذه من إجراءات.. وعاد إلى مكتبه.
وفى مصر الجديدة، كانت دنيا تفتح باب حجرتها، وعلى وجهها هدوء يليق بميتٍ، اعتذرت لوالديها عن العزلة التى ضربتها حول نفسها طوال أيامٍ ثلاثة.. قالت إنها كانت تحب رجلًا لا يليق بها، وانتهى الأمر.
سألت أمها عن عمق علاقتها به، فطمأنتها بإشارة تفهمها النساء.. ثم قالت بوضوحٍ كاملٍ، ودون خجلٍ من الطبيب الذى حافظ على مقعده من الصمت: «ما زلت عذراء».
سألته: ماذا لديك لى يا دكتور؟
فقال: استراحة لن تزيد على أسابيع معدودة، لك أن تنهيها وقتما تشائين.
- متى يمكننا أن نبدأ؟
- وقتما تشائين
- ليكن من اليوم.. ما رأيكما؟
فقال والدها:
- لا نريد إلا سلامتك يا ابنتى.. ليكن من اليوم.
كانت ناهد تجر حقيبتها أمام مطار برلين، فيما خادم بحى مصر الجديدة يحمل حقيبة دنيا، ليضعها فى المقعد الخلفى لسيارة الدفع الرباعى أمام بوابة المنزل الكبير، بينما إسماعيل وجدى يخلع ساعته الألمانية الجديدة، وينيمها بيدى أم تضع طفلها فى الفراش، أمام المربع الجلدى الناعم، بوسط مكتبه العريض، وهو يقول لرئيس تحرير الجريدة اليومية الذى كان يقف أمامه كغريق يبحث عن قشة يتعلق بها، إن وزير الداخلية سوف يعد بيانًا بتكليف من مجلس الوزراء لإذاعته صباح الغد بتفاصيل ما حدث.. «لكن الرجل الكبير يريد البدء فى إذاعة الخبر من الآن.. جهز الصفحة الأولى بكاملها عما جرى، واستخدم أكبر قدر من الصور».. لم يسأل عمن يكون ذلك الرجل الكبير الذى يقصده، فهم كثيرون، لكنه لم يكن ليهتم بحجم كبره، طالما لديه أوامر واضحة من رئيس مجلس الإدارة، المقرب من رئيس الجمهورية شخصيًا، وبحضور اثنين من الفاعلين فى الحياة السياسية، والمقربين بدرجة أو بأخرى من القصر الجمهورى.. فقط «تمام يا ريس».. لم يقل غيرها، قبل أن ينصرف، وهو يجر جسدا ثقيلا، يبدو واضحًا أنه لا يشبع، أو لا يتوقف عن تناول الطعام على أقل تقدير، فيما يسحب ربيع الساعة الجديدة بهدوء محترفٍ فى التعامل مع القطع الفاخرة، وهو يتمتم «هذه الساعة تبدو كتحفة فنية.. متى اشتريتها؟».
تحركت الطائرة فى سماء برلين، وتحركت السيارة فى شوارع مصر الجديدة.. وتحركت الأنباء إلى وزير الداخلية بمجرد خروجه من اجتماع مجلس الوزراء بأن خبر تمرد الجنود بمعسكرى الهرم والجيزة بدأت إذاعته بشكل عاجل فى موجز الأنباء، ونشرات الأخبار، وأن الصحف اليومية بدأت نشر البيان فى الطبعات الأخيرة الصادرة صباح الأربعاء، بينما تحركت قوات الجيش لمواجهة موجات الفوضى والتخريب التى بدأ جنود الأمن المركزى بثها من معسكرات الأمن المركزى بمحافظات القاهرة والجيزة والقليوبية وأسيوط وسوهاج والإسماعيلية.. واشتعلت الأحداث بصورة غير طبيعية، فتقرر فرض حظر التجول فى جميع المحافظات التى شهدت أحداث عنف مفرط، بينما كان إسماعيل يتلقى على هاتف مكتبه، نبأ مقتل حسنى عبداللطيف، وإصابة محمود كامل، خلال هجوم الجنود على شارع الهرم، حيث انحازت كتلة من عمال اليومية والتراحيل، والطلاب، والعاطلين عن العمل، الذين يسكنون فى حى الطالبية، إلى جنود الأمن المركزى، وبدأوا يشتركون معهم فى تحطيم الكباريهات والفنادق الموجودة فى المنطقة، ومنها كازينو الليل، وفنادق الأهرام، وأوبرج الهرم، والأريزونا الذى كانا يقضيان سهرتهما به مع أصدقاء من الفنانين العرب، وأصابت حسنى رصاصة بلا هدف خلال محاولته الفرار إلى مصعد الفندق.. فيما كان نصيب كامل رصاصة أخرى استقرت فى فخذه.. لم يكن قد مر أكثر من أسبوعين على تكليف كامل بالإعداد لإصدار مجلة منوعة خفيفة، تنضم إلى مطبوعات المؤسسة، على أن يكون هو أول رئيس لتحريرها، بينما يتولى حسنى منصب نائب رئيس التحرير، وهى المجلة التى بدأ الإعلان عنها قبل سفر إسماعيل إلى برلين بأيام معدودة، وعليه الآن أن يبحث لها عن نائب جديد لرئيس التحرير.
تصدر قريباً..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.