أسعار اللحوم والأسماك اليوم 27 يونيو    الأرصاد الجوية تكشف موعد انخفاض درجات الحرارة    ليه التزم بنظام غذائي صحي؟.. فوائد ممارسة العادات الصحية    إصابة فلسطينيين اثنين برصاص قوات الاحتلال خلال اقتحام مخيم الدهيشة جنوب بيت لحم    غارة إسرائيلية تستهدف مبنى شمال مدينة النبطية في عمق الجنوب اللبناني    يورو 2024| «يلماز» رجل مباراة تركيا والتشيك    7 معلومات عن أولى صفقات الأهلي الجديدة.. من هو يوسف أيمن؟    والدة لاعب حرس الحدود تتصدر التريند.. ماذا فعلت في أرض الملعب؟    هانئ مباشر يكتب: تصحيح المسار    إعلان نتيجة الدبلومات الفنية الشهر المقبل.. الامتحانات تنتهي 28 يونيو    مسرحية «ملك والشاطر» تتصدر تريند موقع «إكس»    دعاء الاستيقاظ من النوم فجأة.. كنز نبوي منقول عن الرسول احرص عليه    جالانت: لا نريد حربا ضد حزب الله لكن بإمكاننا إعادة لبنان إلى "العصر الحجري"    إصابة محمد شبانة بوعكة صحية حادة على الهواء    موظفو وزارة الخارجية الإسرائيلية يهددون بإغلاق السفارات    فولكس ڤاجن تطلق Golf GTI المحدثة    فى واقعة أغرب من الخيال .. حلم الابنة قاد رجال المباحث إلى جثة الأب المقتول    بعد اجتماع اللجنة المرتقب.. هل هناك زيادة متوقعة في تسعير البنزين؟    حظك اليوم| برج الأسد 27 يونيو.. «جاذبيتك تتألق بشكل مشرق»    حظك اليوم| برج الجدي الخميس27 يونيو.. «وقت مناسب للمشاريع الطويلة»    جيهان خليل تعلن عن موعد عرض مسلسل "حرب نفسية"    حظك اليوم| برج العذراء الخميس 27 يونيو.. «يوما ممتازا للكتابة والتفاعلات الإجتماعية»    17 شرطا للحصول على شقق الإسكان التعاوني الجديدة في السويس.. اعرفها    سموحة يهنئ حرس الحدود بالصعود للدوري الممتاز    مجموعة من الطُرق يمكن استخدامها ل خفض حرارة جسم المريض    الكشف على 1230 مواطنا في قافلة طبية ضمن «حياة كريمة» بكفر الشيخ    أشلاء بشرية داخل القمامة تثير الذعر بأوسيم.. وفريق بحث لحل اللغز    "الوطنية للإعلام" تعلن ترشيد استهلاك الكهرباء في كافة منشآتها    منير فخري: البرادعي طالب بالإفراج عن الكتاتني مقابل تخفيض عدد المتظاهرين    هل يوجد شبهة ربا فى شراء شقق الإسكان الاجتماعي؟ أمين الفتوى يجيب    إبراهيم عيسى: أزمة الكهرباء يترتب عليها إغلاق المصانع وتعطل الأعمال وتوقف التصدير    سيدة تقتحم صلاة جنازة بالفيوم وتمنع دفن الجثمان لهذا السبب (فيديو)    محاكمة مصرفيين في موناكو بسبب التغافل عن معاملات مالية كبرى    العمر المناسب لتلقي تطعيم التهاب الكبدي أ    نوفو نورديسك تتحمل خسارة بقيمة 820 مليون دولار بسبب فشل دواء القلب    رئيس قضايا الدولة يُكرم أعضاء الهيئة الذين اكتمل عطاؤهم    الجيش البوليفي يحاول اقتحام مقر الحكومة في انقلاب محتمل    ملخص وأهداف مباراة جورجيا ضد البرتغال 2-0 فى يورو 2024    هيئة الدواء المصرية تستقبل وفد الشعبة العامة للأدوية باتحاد الغرف التجارية    بيان مهم بشأن حالة الطقس اليوم.. والأرصاد الجوية تكشف موعد انتهاء الموجة الحارة    الدفاع السورية: استشهاد شخصين وإصابة آخرين جراء قصف إسرائيلى للجولان    إجراء جديد من جيش الاحتلال يزيد التوتر مع لبنان    وزراء سابقون وشخصيات عامة في عزاء رجل الأعمال عنان الجلالي - صور    لإنهاء أزمة انقطاع الإنترنت.. توصيل 4000 خط تليفون جديد بالجيزة (تفاصيل)    بسبب عطل فني.. توقف تسجيل الشحنات ينذر بكارثة جديدة لقطاع السيارات    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه المصري اليوم الخميس 27 يونيو 2024 في البنوك (التحديث الأخير)    الحكومة تحذر من عودة العشوائية لجزيرة الوراق: التصدى بحسم    "ما علاقة هنيدي وعز؟"..تركي آل الشيخ يعلق على ظهور كريم عبدالعزيز مع عمالقة الملاكمة    خالد الغندور: «مانشيت» مجلة الأهلي يزيد التعصب بين جماهير الكرة    ميدو: الزمالك «بعبع» ويعرف يكسب ب«نص رجل»    انقطاع الكهرباء عرض مستمر.. ومواطنون: «الأجهزة باظت»    مدير مكتبة الإسكندرية: استقبلنا 1500 طالب بالثانوية العامة للمذاكرة بالمجان    عباس شراقي: المسئولون بإثيوبيا أكدوا أن ملء سد النهضة أصبح خارج المفاوضات    حدث بالفن | ورطة شيرين وأزمة "شنطة" هاجر أحمد وموقف محرج لفنانة شهيرة    تعرف على سبب توقف عرض "الحلم حلاوة" على مسرح متروبول    سماجة وثقل دم.. خالد الجندي يعلق على برامج المقالب - فيديو    حكم استرداد تكاليف الخطوبة عند فسخها.. أمين الفتوى يوضح بالفيديو    هل يجوز الرجوع بعد الطلاق الثالث دون محلل؟.. «الإفتاء» تحسم الجدل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحلقة الأخيرة.. البحث عن الله في غانا
نشر في البوابة يوم 16 - 10 - 2015


الأغلبية «بيروتستانت» وأكرا «بلد الألف كنيسة»
الغانيون يناجون الله ب«الرقص»
داخل الكنائس والأحد «عيد الأطفال»
30٪ نسبة المسلمين و«الخمار» الزى الرسمى للسيدات
كانت المرة الأولى لطيرانى خارج الحدود المصرية، كنت متحمسة.. أحب الأراضى السمراء، تستهوينى الابتسامات ناصعة البياض والقلوب الطاهرة، والمهمة فى حد ذاتها مختلفة ومميزة، التطوع لمساعدة الأطفال الغانيين وتعليمهم أمورا لم يسمعوا عنها من قبل. أنا سأشكل وجدان وفكر أطفال ربما لن أراهم مرة أخرى أبداً.. أرسل لى صديق عشية سفرى رسالة يقول فيها: «اليوم سيبدأ العد التصاعدى لما ستغرسينه فى نفوس صغيرة بيضاء داخل أجسام سمراء، اليوم سيبدأ العد التصاعدى لقراءة ومشاهدة ما ستنقلينه عن حياة الغانيين، حراس الغابات، وبائعى الموز المقلى ومروضى القرود، والمدرسين الحالمين بغد أفضل فى البلد الحار»، وبالفعل قد كان.. عشت ثلاثين يوماً لن أنساها ما حييت، نقشت تفاصيلها فى ذاكرتى إلى آخر أيام عمرى، أنقلها وأحكى عنها. حكايات رأيتها وعشتها، سأروى بعضها فى محاولة لرسم صورة عن بلد لا نسمع عنه سوى فى مباريات كرة القدم، ولكنه بالفعل عالم آخر يشبهنا قليلاً ويختلف عنا كثيرا، جزء من إفريقيا القارة الأم والشعوب الطيبة.
قضيت فى غانا ثلاثين يومًا بلياليها، عشتها كلها - ما عدا بعض العطلات- فى المحافظة الساحلية «فولتا»، التى يحدها من جهتين بحيرة صناعية كبيرة وواسعة، تجبر الزائر للمحافظة على العبور بمعدية، فلا طريق برى إليها.
اصطحبنا «الفريد» مضيفى الغانى إلى نزهة بالقارب فى البحيرة. قارب خشبى صغير يسع حوالى 10 أفراد يجلسون على ألواح خشبية مثبتة به، يجلس فى نهايته بحار أسمر يشبه القراصنة، يقود القارب بمجداف أحيانًا وبالموتور أحيانًا أخرى، ويرافقه صبى صغير يجلس فى الأمام يحذره من بقايا الأشجار فى البحيرة حتى يتفاداها.
ركبت القارب وجلست وبدأنا الإبحار، عند هذه اللحظة تذكرت جملة مبارك الشهيرة «عبَارة من اللى بيغرقوا دول»، لم تكن هذه مجرد مزحة، فبالفعل كان القارب يغرق بالماء الذى يدخل من بين فتحات الألواح الخشبية، فينهض الصبى بخفة ويفرغ الماء من القارب باستخدام زجاجة، ويعود ليجلس مكانه كأن شيئًا لم يكن. سألت «الفريد» عن الأمر فأكد لى أنه طبيعى، وهم يعلمون طريقهم فى البحيرة، ولكن كلماته لم تنجح فى إزالة خوفى من الغرق خاصة أننى لا أجيد العوم.
لاحظ البحار خوفى، فتحدث باللهجة المحلية مع «الفريد» الذى أخبرنى بالإنجليزية وهو يضحك مزحة غانية تقول «الموت غرقًا، أفضل من الموت على الطريق»، لم أفهم لماذا لابد أن أموت بطريقة ما، فالحياة أفضل من الاثنين. قررت قضاء الإجازة الأسبوعية الأخيرة فى القرية الصغيرة قبل سفرى إلى العاصمة استعدادًا للرجوع، حتى أتمكن من حضور الكنيسة التى تجاور سكنى والتعرف على الثقافة الدينية لغانا عن قرب.
الدين الغاني
أستطيع القول بمنتهى الثقة.. إن كانت القاهرة هى بلد الألف مئذنة، فغانا هى بلد الألف كنيسة، فبين الكنيسة والأخرى فى القرى والمدن حوالى 5 أمتار فقط، أغلبهم يتبعون الطائفة البروتستانتية مع أقلية كاثوليكية.
تُقرع الأجراس يوم الأحد فيستجيب لندائها الجميع. تمتلئ جميع الكنائس على الرغم من كثرتها، حتى أن البعض منها يقيم شوادر إضافية فى الطرق لاستيعاب أعداد الحضور الكبيرة.
الكل يرتدى الملابس الرسمية أثناء الذهاب للكنيسة، الفساتين يصحبها غطاء الشعر من نفس اللون للسيدات، والبنطلونات مع قمصان طويلة من نفس اللون للرجال. أما الأطفال فيعتبرون الأحد هو يوم العيد، يلبسون أفضل ما لديهم ويتزينون ويُسمح لهم بالذهاب لصالونات تزيين الشعر.
أمام باب الكنيسة يقف فريق الترنيم أو «الكورس» المتخصصون فى الغناء يرتدون ملابس سوداء تشبه تلك التى يرتديها خريجو الجامعة، يغمضون أعينهم للصلاة قبل الاستعداد لدخول الكنيسة.
يُفتح الباب الرئيسى للكنيسة، ويبدأ «الكورس» فى الدخول، دقات طبول وعزف موسيقى بشكل هادئ ثم يتعالى ويزداد ضجيجًا، فيقف الجميع للرقص. يُشكل الحضور صفوفًا تدور فى القاعة وهم يرقصون بشكل عشوائى على الطريقة الإفريقية، الجميع يرقص ويصفق ويهتف. فى مقدمة الصف رجل يمسك بطبلة صغيرة فى إحدى يديه، وفى الأخرى عصا ليقرع عليها، سيدات عجائز لا يقوين على المشى ينتفضن عند سماع رقع الطبول ليقدن حلقات الرقص، تلك السيدة تحمل طفلها الرضيع على ظهرها وتربطه بملاءة أو قطعة قماش، كنت دائمًا أتساءل كيف تستطيع السير به لمسافات طويلة، فما بالك بالرقص وهو على ظهرها يجلس فى هدوء لا يتحرك.
تصمت الموسيقى فجأة ويجلس الجميع فى أماكنهم كأن على رءوسهم الطير. دقائق معدودة وتقف مجموعة صغيرة تجلس فى المنتصف، تغنى وترقص بمفردها ولا يجرؤ أحد على الاشتراك معها حتى انتهائها، ثم تقف مجموعة أخرى تفعل ذات الأمر، يفعلون ذلك بمنتهى النظام والترتيب. تنتهى فقرة الترانيم والرقص ليقف القس الذى يرتدى جلبابًا أسود نقش عليه صليب، ولكنه مختلف عن الزى التقليدى للقساوسة المصريين، يقرأ فقرة من الإنجيل باللغتين الإنجليزية واللغة المحلية للمنطقة، ثم يبدأ العظة باللغة المحلية فقط. يرتفع صوته وينفعل كما يفعل الوعاظ فى مصر، ثم يدعو الحضور للصلاة قبل الانتهاء، يغمضون أعينهم ويتحدث كل منهم بصوت مرتفعى يناجى ربه، ثم ينهى القس الفقرة بالصلاة الختامية وينتهى القداس أو كما يُطلق عليه «الاجتماع».
فى وقت العبادة، يجلس الاطفال فى الساحة الخارجية للكنيسة، يستمعون لشخص يحكى لهم قصصًا من الإنجيل، ويقودهم فى الصلاة والترنيم والغناء، لا يحق لهم دخول القاعة الكبرى احترامًا لقدسية المكان وتجنبًا للضوضاء.
المسيحيون فى غانا هم الأغلبية بنسبة 70 ٪، أما المسلمون فيمثلون حوالى 30 ٪ وفقًا لآخر الإحصاءات الشعبية، أما الإحصاءات الرسمية فلم تذكر أكثر من 15٪ مسلمين، مع عدد من أصحاب الديانات الإفريقية.
المساجد فى غانا عددها قليل مقارنة بعدد الكنائس هناك، ففى كل قرية يوجد مسجد واحد، إلا فى بعض المدن التى ينتشر فيها المسلمون فتكثر دور العبادة. تمتلئ المساجد يوم الجمعة بالمصلين، الرجال منهم يرتدون الزى المعتاد للمسلم الإفريقى، جلباب قصير ملون مع بنطلون أبيض، وأغلبهم بذقون طويلة. أما السيدات فيرتدين حجابًا أشبه بالخمار المصرى ويقرأ الشيخ الآيات القرآنية باللغة العربية، ثم يستكمل خطبة الجمعة باللغة المحلية المفهومة لأهل قريته.
التدين سمة الشعب الغانى، فلابد من اتباع أى ديانة، حتى إن كانت غير سماوية. الجميع يذكر اسم «الله» دائما. أسماء المحال تحمل صبغة دينية، أما أنها آية من الإنجيل أو جملة تحث على الإيمان والصلاة. فلقد رأيت محلًا لبيع اللحوم المجمدة يطلق عليه « الله هو الحامي»، وهذه بقالة سميت «لا شىء.. صل فقط». حتى أسماء البشر هناك لها معانٍ دينية. وعلى الرغم من التدين الواضح إلا أن البيرة والخمر أمر مُباح فى كل المحلات والشوارع، فالقرية الفقيرة التى سكنت بها، لا توجد بها منازل كافية، ولكن يوجد بها «بار» لتقديم الخمور. البار لديه سماعات مكبرة تذيع الموسيقى والأغانى التى تسمعها كل القرية، ولكنها أغانٍ دينية مسيحية، إيقاعها بطئ لا يصلح للرقص، أطول من أغانى أم كلثوم، فمن الممكن أن تستمر الأغنية ساعتين كاملتين مع نفس الإيقاع البطئ الممل الذى لم أعرف علاقته بالخمور أو «البار».
ينص الدستور الغانى على حرية العقيدة ويُفعل هذا البند فى الشوارع والحياة العامة. عندما ذهبت للعاصمة رأيت العديد من اللوحات الإعلانية التي تُخبر المارة بمواعيد الكنائس وأماكنها، وتشجعهم على الحضور بعبارات مثل «تعال واعبد معانا»، «اليوم لدينا واعظ متميز»، فالقساوسة وخدام الكنيسة هم نجوم المجتمع هناك. و على جانبى موقف سيارات المطار فى العاصمة «أكرا»، شاهدت على الأرض أباريق مملوءة بالمياه، نُقشت عليها رسومات إسلامية ومساجد أثرية، وإلى جوارها يجلس عدد من المسلمين المميزين بملابسهم والعاملين بالمطار، استفسرت فعلمت أنهم ينتظرون موعد الصلاة، وتلك الأباريق للوضوء.
من حق اتباع أى دين الدعوة والتبشير لمعتقدهم فى أى وقت وأى مكان. أتذكر استقلالى لإحدى المواصلات العامة التى صعدتها سيدة تتحدث عن «الله» وتبشر بالدين المسيحى، أنهت كلامها ونظرت إلىّ ثم تحدثت باللغة الانجليزية من أجلى ودعتنا للصلاة، تأثرت بكلماتها وهممت أن أحييها، ثم اكتشفت أنها تجمع المال بعد إنهائها للعظة، كسيدات المترو فى مصر. صادفنى عدة مرات أثناء سيرى فى شوارع العاصمة الرئيسية شخص مسلم يتحدث معى عن الإسلام وسماحته، وآخر مسيحى يوزع كتيبات للتبشير مجانًا. قال لى أحد الأصدقاء الغانيين: «الدين هنا أمر مهم جدًا، ولكننا غير متعصبين له، فأغلب العائلات نصفها مسيحى والنصف الآخر مسلم، دون أى مشاكل أو تعقيدات». على الرغم من ذلك فيوجد فى غانا قانون يمنع ارتداء الحجاب فى العمل والمدارس، ويسعى المسلمون لإسقاطه.
غانا بلد فقير أطلق عليها سابقًا «ساحل الذهب» لكثرة تجارته هناك، ولكن الآن ينتشر الفقر فى كل مدنها، ويتضح ذلك فى كل مكان أسير فيه، متسولون وفقراء وباعة جائلون وأسواق شعبية، وحاجة للتبرعات والتطوع، على الرغم من ذلك فالاقتصاد منتعش أكثر من الاقتصاد المصرى، العملة الغانية تساوى 2 جنيه مصرى، مع توقع زيادتها. وبذكر الاقتصاد لابد أن تذكر الكهرباء، كنت أبكى فى مصر عندما ينقطع النور أكثر من ساعة، أما فى قرى غانا التى سكنتها، فالكهرباء تنقطع 12 ساعة متواصلة كل يومين بمواعيد محددة وتعود فى مواعيد محددة، يحفظها السكان ويتعايشون معها.
الثقافة الاستهلاكية منتشرة فى العاصمة أكثر من القرية التى يأكل سكانها ما يزرعونه، ولكنها مع ذلك لا تشبه العاصمة المصرية. لا وجود لمنتجات أجنبية، لا محلات تحمل شعارات الشركات العالمية إلا فى المراكز التجارية الكبرى التى يقصدها السياح فقط. عند دخولى للمول التجارى شعرت لوهلة أننى عدت لمصر، لم أشاهد غانيين إلا عددًا قليلًا، واستمعت كثيرًا للغة عربية بلهجة شامية، فاللبنانيون هم أصحاب الجزء الأكبر من الاستثمار فى غانا.
فى شوارع العاصمة يجلس الباعة الجائلون يبيعون الطعام المحلى، والمخبوزات الحلوة ليلاً. سيدة عجوز تضع أمامها الفول السودانى غير المحمص تبيعه للمارة، تحمصه لهم فورًا إذا أرادوا، فأمامها النار والقدر المعدنى. فى شوارع غانا يوجد «ذرة مشوي» و«موز مقلي»، و«شاورمة» وأطعمة كثيرة تباع فى الشارع، تختفى جميعها فى الصباح الباكر. فالغانيون يفطرون لحومًا ولا يعرفون «الفول» أو الأطعمة الخفيفة. ظللنا حائرين حتى وجدنا كنزنا «عربة الفول» خاصتنا، عربة متنقلة تبيع ساندوتشات البيض المقلى والزبدة ويصنع صاحبها الشاى والقهوة. كانت مطعمى الصغير الذى عرف صاحبه «طلبي» حتى يومى الأخير فى عاصمة البلد السمراء.
الشعب الغانى أثبت لى أنه لا علاقة للمال بالاحترام. حاولت عبور الشارع فوجدتهم ينظرون لى بتعجب، لا أحد هنا يعبر الشارع إلا مع الإشارة الخضراء للمارة، ولا يجرؤ سائق على كسر الضوء الأحمر أو تجاوزه. لافتات تحمل الاتجاهات وأسماء الشوارع تخبر الجميع بالطرق ولا تعطى فرصة للخطأ. يلتزم الكل بالكمائن المنتشرة فى كل مكان ويطيعون الأوامر حتى لو لم تروقهم.
قبل سفرى لغانا أخبرنى البعض عن نظرة المجتمع الإفريقى للمرأة، وكيف أنها أقل قدرًا من الرجل، حقيقة لم أشاهد ذلك طوال فترة مكوثى هناك، المساواة موجودة فى كل مكان فى شوارع غانا. أفراد الشرطة رجال ونساء، أغلب المحلات أصحابها من السيدات ويحترمهن الجميع. لم أعرف النسبة الرسمية للتحرش فى غانا، ولكننى لم أشاهد حادثة واحدة طوال فترة مكوثى. أخبرنى صديق غانى ألا نسير فى الشوارع بعد الساعة العاشرة مساء حتى لا يتعرض لنا أحد، ولكننى لم أستمع له وتأخرت ولم يتعرض لى أحد أو يضايقنى بكلمة. الكل ينظر لى ويبتسم، ليس بقدر الود الموجود فى القرى، ولكنها ابتسامة تناسب صخب العاصمة وضوضاءها. رأيت فتيات مراهقات يحملن أطفالهن على ظهورهن، بعدها علمت أن نسبة الزواج المبكر والحمل بدون زواج منتشرة فى غانا، وبعد الولادة يهرب الزوج ويترك الفتاة الصغيرة وحيدة تربى الأطفال.
أسير فى العاصمة أكتشفها وأتأملها، فأرى لافتات مرشحى البرلمان استعدادًا للانتخابات التى ستجرى فى نوفمبر.. نسبة المرشحات من السيدات لا بأس بها تكاد تصل إلى نصف اللافتات، ولكن السمة السائدة هى السن الكبيرة فمعظمهم تخطوا الخمسين من عمرهم، ولا وجود للشباب فى السياسة الغانية.
على الرغم من الحرية السياسية التى يتحدث عنها الرئيس الحالى «ماهاما»، إلا أن نسبة الفساد المنتشرة فى غانا أجبرت المعارضة على الانسحاب من الساحة. فالرشوة جائزة لكل المسئولين، وفضائح رجال القضاء يتحدث عنها الجميع وتنشرها الصحف. يخاف الشعب الغانى جهاز الشرطة فيصمت، ولكنهم فى الخفاء يعلنون عدم رضائهم عن الأوضاع السياسية، وإن كان الوضع الاقتصادى فى تحسن.
الرحلة الأخيرة
قضيت أيامى الأخيرة فى العاصمة الغانية فى محاولة للاستمتاع بكل ما أراه وأعيشه، رأيت الاستاد الذى يقع فى وسط العاصمة وحصد فيه المنتخب المصرى منذ 7 سنوات كأس الأمم الإفريقية. ذهبت لمكان سياحى أشترى تذكارات أعود بها إلى مصر، شعرت وكأننى أتجول فى خان الخليلى، شوارع صغيرة متداخلة يجلس بها البائعون السمر ينادون على السياح ويتوقعون من أى بلد أتيت، يقولون سعرًا مرتفعًا، فترفض فيخفضونه حتى يرضى الزبون ويشترى. لم يعرفوا أن «الفصال» هو صنعة مصرية أصيلة، لن يغلبنا أحد فيها.
دخلت إلى محل صغير يبيع التماثيل، قال لى البائع «أهلاً وسهلًا» بالعربية، تعجبت وسألته من أين يعرف هذه الكلمة؟، أخبرنى أنه يحفظ بعض الكلمات العربية. بعد الفصال والشراء لاحظت أنه يتحدث بلهجة مصرية، أخبرنى أن جدته مصرية وهى من علمته هذه الكلمات. ذهبت قبل عودتى إلى شاطئ المحيط الأطلنطى، سألنا عن أفضل الشواطئ فأرشدنا الغانيون إلى أغلاها. بعد وصولى هناك وجدت أن الشاطئ الأجمل بالنسبة لهم هو «جمصة» المصرية. سيدات يبعن العوامات وملابس البحر والألعاب البلاستيكية، عائلات تجلس وأمامها أطباق الأكل الشعبى، باعة جائلون يبيعون حُلى إفريقية، أو فولاً سودانيًا. أطفال سُمر صغار يؤدون حركات بهلوانية استعراضية ثم يمدون أطباقًا لجمع «ثمن الفرجة» من المشاهدين.
المطار ورحلة العودة
ذهبت للمطار استعدادًا لعودتى إلى القاهرة، وفى مكتب الجوازات ابتسم لى الشرطى عندما علم بجنسيتى المصرية، وأخبرنى بقصة الرئيس الغانى المتزوج من مصرية للمرة الألف. ولكننى سمعت الشرطية فى المكتب المجاور تسأل صديقى المصرى عن العاصمة المصرية وهى تتوقع أن تكون الإجابة «تل أبيب».
صحح لها «علي» المعلومة أن تل أبيب عاصمة إسرائيل، والقاهرة هى العاصمة المصرية. فعادت لتقول هل تقع القاهرة على مقربة من تل أبيب؟ واستمرت فى الأسئلة التى لم أفهم مقصدها، هل تستطيع الذهاب للعاصمة الإسرائيلية بالقطار؟ هل ذهبت لها من قبل؟، أجاب الشاب المصرى على تساؤلاتها وهو لا يعرف كيف لشرطية تعمل فى المطار لا تعرف عواصم البلاد، أما أنها تعمدت إغاظته؟!
إحدى عشرة ساعة حتى وصلت إلى القاهرة بشكلى الجديد، صففت شعرى على الطريقة الإفريقية وارتديت سلسلة تحمل العلم الغانى، وأنا أحمل فى قلبى ذكريات عشتها مع «نفوس صغيرة بيضاء داخل أجسام سُمر».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.