سقط نظام القذافى.. فرّ المقاتلون «الطوارق» الذين قاتلوا بجانبه إلى إقليم الأزواد شمال مالي، محملين بترسانة من الأسلحة أغرتهم لإعلان التمرد على الحكومة المركزية في باماكو، طامحين في الاستيلاء على كامل أراضى البلاد.. وكان في استقبالهم الزعيم التاريخى «إياد أغ غالي» ابن القبيلة الطوارقية العريقة «الإيفوغاس»، الذي قادهم نحو الحرب تحت لواء «القاعدة» ليس فقط في مواجهة الحكومة المالية الهشة، بل في مواجهة الجيش الفرنسى الذي خشى على ضياع نفوذه ومصالحه هناك. أطلق «غالي» على جماعته «أنصار الدين» ورفع راية القاعدة السوداء، مطالبا بتطبيق الشريعة الإسلامية، وباتت جماعته من أكبر الجماعات المتشددة والمسلحة في الصحراء الكبرى، بعد أن أمدته «القاعدة» الأم بالمال والرجال، حتى استطاع السيطرة في وقت من الأوقات على مدينة «تمبكتو» الأثرية شمال غرب مالي، وشرعت بعدها الجماعة السلفية في هدم الأضرحة والعتبات الدينية، التي أدرجتها «اليونيسكو» على لائحة التراث العالمى عام 1988، فأتت على 7 مزارات من أصل 16، ما لاقى ردود فعل دولية غاضبة، إلا أن «غالي» لم يكتف بالسيطرة على شمال مالي، حتى طمح في التوسع داخل الجنوب في تحدٍ للقوى الغربية، فخاض بميليشيا «أنصار الدين» معارك ضارية في «كونا» ختمها بهجوم شرس على معسكر أعد لتدريب الجنود الماليين على أيدى عسكريين فرنسيين وأوروبيين مخلفًا في صفوفهم عددًا كبيرًا من القتلى والجرحى، فجعل من نفسه الهدف الأول للقوات الفرنسية الخاصة، التي دخلت الأراضى المالية بعد العملية بأيام لحماية دولة مالى من الانهيار حسبما ادعت «باريس». عندما دارت رحى المعارك بين «أنصار الدين» والقوات «الفرنسية - المالية»، بدأت أفواج الجهاديين تتردد على «أزواد» قادمة من الجزائر والمغرب وتونس وليبيا ومصر ومن تخوم الصحراء الكبرى، لنصرة إخوانهم الذين حملوا لواء القاعدة، لكنهم قرروا في نهاية المطاف الانسحاب حيث التحصن في جبال «تغرغارت» قرب «كيدال» في أقصى الشمال الغربى لمالى عند الحدود مع الجزائر. واتخذ «غالي» وجماعته من تلك الجبال نقطة انطلاق ليس فقط للقيام بعمليات ضد الحكومة المركزية في مالى والقوات الفرنسية الداعمة لها، بل كمعسكرات لتدريب العناصر التابعة للقاعدة، وإمداد أفرع تنظيم القاعدة في أفريقيا بالمال والسلاح، وظهر ذلك جليا عندما اعترف محمد جمال الكاشف «أبو أحمد»، أحد المتهمين في قضية خلية مدينة نصر، الذي اُتهم بالضلوع في الهجوم على القنصلية الأمريكية في بنغازي، بأنهم جلبوا أسلحة وصواريخ وأموالا من الميليشيات الجهادية في شمال مالي. وشكلت مالى مركز المنتصف لتنظيم القاعدة في أفريقيا، وملاذا آمنا له في بلاد المغرب العربي، يستطيع من خلاله الجهاديون تقديم الدعم اللوجيتسى لأفرع القاعدة المتواجدة في شمال أفريقيا وصولا إلى مصر، وإذا كانت الولاياتالمتحدةالأمريكية أدرجت «غالي» وجماعته على قوائم الإرهابيين المطلوبين لديها، باعتباره يشكل خطرًا على أمنها القومي، فلا شك أن الرجل شكل بالفعل خطرا على الدولة المصرية الوطنية باعتباره الأقرب جغرافيا إلى تنظيمه من واشنطن. «غالي» المثير للجدل عرف من خلال بروزه كقائد يسارى لحركة «تحرير أزواد» في بداية التسعينيات حين قاد حركة «الطوارق» في حرب مع مالى انتهت بتوقيع اتفاقية سلام لم تُنفذ، وبقى هو متنقلا بين العاصمة المالية باماكو التي تقلد فيها عدة مناصب، وبين دول الجوار لا سيما ليبيا، حيث عقد صداقة وثيقة مع العقيد معمر القذافى استمرت حتى مقتل الأخير خلال الثورة الليبية. وخلال عقد من الزمن سافر «إياد» إلى باكستان عدة مرات حيث تأثر بجماعات التبليغ في باكستان التي عقد معها صلات واسعة، فأطلق لحيته وانعزل عن الناس ملازما منزله في معقله «كيدال»، وأنهى الرجل حقبته اليسارية، عندما ساقت له الأقدار بين الأوروبيين وخاطفى الرهائن في مالي. وبعد سقوط «القذافى» واشتعال الثورة الأزوادية بقيادة «حركة تحرير أزواد» ضد السلطات المالية، فوجئ المتابعون بإعلان «غالي» حركة «أنصار الدين» التي أعلنت هي الأخرى الحرب ضد الحكومة المالية، لكن تحت علم القاعدة الأسود، والمطالبة بتطبيق الشريعة. ولكى يخلق «إياد» نوعا من التمييز بينه وبين حركته الأم التي انشق عنها، رفض بدوره الاستقلال بشمال مالى والإصرار على الاستيلاء على كامل أراضى البلاد، مما اعتبرته حركة «تحرير أزواد» اليسارية كسرًا لأحد أهم الثوابت التي نادت بها الحركة خلال تاريخها. لم يكتف «غالي» بالانشقاق عن الحركة الأم بل ذهب للتحالف مع أخطر تنظيمات القاعدة في الصحراء الكبرى «التوحيد والجهاد»، وقاما سويا بطرد حركة «تحرير أزواد» التي يقودها الطوارق من المدن الشمالية الثلاث «تينبكتوا وجاوا وكيدال»، وأعلن تطبيقه للشريعة الإسلامية على منهج «القاعدة»، وأخذ في التضييق على الحريات الشخصية للمواطنين. وغرت حركة «أنصار الدين» قوتها بعد أن بلغ أعدادها الآلاف من المقاتلين، فشرعت في التوسع في وسط مالى واقتحمت مدن «دوانزا وكونا وهمبري» التي لم تكن تحظى بحماية من الجيش المالى المتهالك، ما وسع أطماعه وجعله يزحف مع أنصاره إلى هذه المدينة القريبة من «موبتي» حيث القاعدة العسكرية الفرنسية. استنجدت الحكومة المالية بحليفتها فرنسا لتشن حربا على ميليشيات القاعدة وحركة أنصار الدين، وليفر «غالي» وجماعته حيث الجبال والصحراء، بكامل عتاده ورجاله، ويظل يشكل خطرًا على البوابة الغربية لمصر، ويرد «غالي» حاليًا الجميل لمقاتلى القاعدة في ليبيا الذين ناصروه يومًا ليرسل فلول جنوده لمشاركته في الفوضى الدائرة في ليبيا. من النسخة الورقية