إن كنا نحب مصر الجميلة ، العظيمة ، الجليلة، كنانة الله في أرضه، والمحفوظة بحفظ الله لها، والمذكورة في قرآن ربنا الكريم، ونحن نعلو جميعا على خلافتنا، ونذيب تفرقنا وتشتتنا، ونضع مصلحة الوطن فوق كل مصلحة ، إن كنا كذلك، فتعالوا نجعل شعارنا جميعا في هذا اليوم (الأربعاء) الموافق 25 يناير- يوم الذكرى الأولى للثورة المباركة - هذا الشعار الجميل: " اليوم يوم المرحمة".. من منكم يتذكر هذه الجملة النبوية الكريمة التي منع الله ببركتها دماء تسفك، وأرواحا تزهق، وأبرياء من الممكن أن يقتلوا، لو لم يطلقها صاحبها ويجعلها شعارا للجميع كما أتمنى أنا الآن أن تكون شعارانا اليوم.. ولمن لا يتذكر المقولة الكريمة أقول : إنها وردت على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند دخوله مكة فاتحاً في العشرين من شهر رمضان المبارك ، وقالها ردا على مقولة سعد بن عبادة الأنصاري، رضي الله عنه، عندما مر بأبي سفيان في كتيبة الأنصار فقال: " اليوم يوم الملحمة ، اليوم تستحل الحرمة ، اليوم أذل الله قريشاً ".. وما إن وصل الخبر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، حتى استنكره واستبدله بالشعار الجميل الرحيم ": اليوم يوم المرحمة"، ثم ترجم رسول الإنسانية هذا القول بفعل عملي، حيث أرسل إلى سعد ونزع منه اللواء ، ودفعه إلى ابنه قيس ، ورأى أن اللواء لم يخرج عن سعد إذ صار إلى ابنه. مقولة سعد بن عبادة كانت شبه مسلمة من المسلمات التي تكاد تسيطر على معاشر الأنصار والمهاجرين وأبناء المسلمين من القبائل الأخرى التي انضمت للإسلام، وشاهد الجميع وسمعوا كيف اضطهد المسلمون من قبل قريش وحلفائها.. ويكفي أن نعلم أن المسلمين بسبب الدفاع عن دينهم، دخلوا مع قريش حروبا شرسة بلغت أشدها وأوجها في غزة أحد الذي انكسر فيها جيش المسلمين وجرح رسول الإنسانية كلها وكسرت رباعيته ودخلت حلقتي"المغفر" في وجنتيه الشريفتين صلى الله عليه وسلم. حتى نزف الدم الغزير ونزعهما عنه أبو عبيدة الجراح بأسنانه الأماميتين فسقط أرضا وسقطت أسنانه مرتين، حتى أصبح رضي الله عنه " أثرما". واشتدت عليهم أيضا في غزة الخندق حتى وصف الله جل وعلا مدى الضيق والخوف الذي انتاب المسلمون من المشركين بقوله" وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا". ولم تكن أول مشاهد غزة حنين بأخف وطأ على المسلمين حيث ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وولوا مدبرين وقد انكسروا في بدايتها حتى ثبت الرسول الشجاع وقلة معه ثم انزل الله السكينة والنصر على رسوله وعلى المؤمنين. ولم تكن أيضا غزة مؤتة- بعيدا عن قريش- و قتل فيها خيرة الصحابة الأجلاء عبد الله بن جعفر وزيد بن حارثة، وعبد الله بن أبي رواحة ونعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا تلو الآخر- بأرأف من الغزوات السابقة في الشدة والضيق وقلة الحيلة والعدد والعدة.. ثم جاءت غزة العسرة وأعني بها غزةتبوك التي كانت في حر وفقر وجوع وضيق حال وطول طريق . ومن أجل هذا وذاك كانت مقولة القائد الأنصاري ليست بمستغربة منه من قبل المسلمين سواء كانوا من المهاجرين والأنصار، ولا أكون مخالفا لو قلت إنها كانت ترجمة لما في نفوس الجميع في يوم اجتمعت فيه كلمة المسلمين وقويت شوكتهم وكثر عددهم وهم ذاهبون لفتح مكة التي طردوا منها قبل عامين وهم معتمرين ثم خذلتهم قريش بأن نكثوا العهد وقتلوا حلفاء المسلمين في وقت الصلح.. لكن رسول الإنسانية لم يكن هم سفك الدماء ولا أسر الأبرياء بل أرادها درسا قويا وترجمة واقعية لكبراء قريش وقادتها حين دخل مكة آمنا وهم خائفون، ودخلها منتصرا وهم منهزمون، ودخلها والحق معه وهم الذي خذلوا الحق ونكثوا العهد، ثم أعطاهم الدرس الكبير بالعفو العام الذي لم يكن يصدقه الزعماء فضلا عن العامة من أهل مكة كلها. بالله عليكم لو لم يتدخل "الرحمة المهداة" بأسلوبه الحكيم، وقلب شعار الصحابي " اليوم يوم الملحمة" وجعله " اليوم يوم المرحمة"، ماذا كان سيجل التاريخ من مآس ومجازر؟ ولما رأى أن في الأب عصبية قد توحي بالشر المستطير في يوم انتظره المسلمون كثيرا، ليردوا لقريش الصاع صاعين، نزع اللواء من الأب – وإرضاء له – أعطاه للابن، وجعل يوم الفتح تسامحا لم تسمع البشرية كلها بمثله. إن ابن قريش وسيدها وابن ساداتها الكرام، محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، التي طردته قريش من مكة وبيّتت النية وخططت لقتله في فراشه، ليلة الهجرة، قال لقريش كلها عن بكرة أبيها مقولته الخالدة:" اذهبوا فأنتم الطلقاء"، وهو الذي يملك حق القتل وحق الأسر وحق الانتقام وحق الثأر، إلا انه لم يقتل ولم يسفك ولم ينتقم ولم يثأر ولم يرد السيئة بمثلها، بل رد بالعفو العام والصفح الجميل والكرم الذي لم يدانيه كرم والجود الذي أصبح مضرب الأمثال على ممر الليالي والأيام. إن ديننا الإسلامي الحنيف حرم المُثلة، بل حرم قتل الحيوان، وإفساد الزرع، وهدم البيوت، وكذلك حرم الإجهاز على الجريح، وتتبع الفار، وذلك أن الحرب كعملية جراحية، لا يجب أن تتجاوز موضع المرض بمكان. وفى ذلك روى سليمان بن بريدة عن أبيه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا أّمر أميراً على جيش أو سرية، أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: "اغزوا باسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً" واسمعوا معي لوصية أبى بكر الصديق لأسامة بن زيد حين بعثه إلى الشام: "لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً، ولا شيخاً كبيراً، ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة، ولا بقرة، ولا بعيراً، إلا لمآكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع (يريد الرهبان)، فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له". هذا في حالة الحرب بين الأعداء، فكيف ونحن لسنا في حرب، بل نحن أبناء شعب واحد ووجب أن نكون إخوانا متحابين متماسكين نطبق ما طلبه منا رسول الإنسانية جمعاء" مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى". إن مصر اليوم في الذكرى الأولى تحتاج للرحمة والتسامح والتضامن والتعاون والتآزر وليس للفرقة والتخريب والتدمير والتحريق وسفك الدماء، فالله لن يسامح مصريا يغدر في هذا اليوم بأهله وشعبه وناسه ولن يسامح الله مخربا أو محرقا أو مدمرا ينتهز انشغال الناس في الاحتفال بالذكرى ويسعى في مصر المحروسة خرابا. إن لنا أعداء متربصين بنا، كما قال القرآن" ودوا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة" وما إسرائيل وحلفاؤها عنا ببعيد، فلا تعطوا الفرصة لمن يريد بمصر ما يريده أعداء مصر منها.. مرة ثانية وثالثة ورابعة وعاشرة ومائة أقول لكم ولكل مصري ومصرية : تعالوا نستدعي التاريخ الجميل، ونطبق هذا الموقف النبوي الكريم النبيل الرحيم، في مصرنا الكريمة الجميلة، ومن أجل مصرنا الكريمة النبيلة الجميلة أيضا، ونجعل شعارنا اليوم: " اليوم يوم المرحمة".
************** آخر الكلام.. وإذا قدرت فأنت أمٌ أو أبٌ // هذان في الدنيا هما الرحماءُ (أمير الشعراء أحمد شوقي ، يمدح سيد الخلق صلى الله عليه وسلم في عفوه وتسامحه ورحمته) [email protected]