لم تعد مقولة ان الاقتصاد المصري بالفرص التي تلوح أمامه والتحديات التي تعترض مساره يقف عند مفترق طرق مقولة صائبة لأن كم الاختبارات والاختيارات التي خاض غمارها علي مدار نصف قرن تقريباً لم تدع شاردة ولا واردة إلا وطرقت خبراتها العملية ومعارفها النظرية واجتذبت اهتماماً تصاعدت مستويات وعيه ووسعت من آفاق مداركه لطبيعة العلل وطرق العلاج. فالرحلة التي مرت تباعاً بمحطات مهمة ثلاث بقدر ما كانت حافلة بدرجات متفاوتة من النجاحات النسبية كانت بذات المعيار مفعمة بمقادير من الإخفاق. غير أن الحقائق ارتقت إلي مستوي المسلمات وبقيت خارج ميادين الجدل ما بين الفرقاء المنضوين إلي مدارس اقتصادية شتي ومذاهب أيدولوجية عدة. فمصر دولة أفروآسيوية جغرافياً، وبحرمتوسطية من حيث الحضارة والثقافة إضافة إلي كونها شرق أوسطية بمعيار أنها حجر الزاوية سياسياً واستراتيجياً وبؤرة مركزية في شبكات نظم المبادلات التجارية والاقتصادية الدولية وبالتوازي مع ذلك فهي كيان اجتماعي سكاني دينامي يملك حوافز ومقومات النهوض والارتقاء وتعبئة ما في حوزته من معطيات كثيرة متاحة وكامنة. فالسبيكة الاقتصادية المدهشة الطابع الفريدة المنوال التي مزجت ببراعة وتوازن دقيق ما بين المركزية الاقتصادية الزراعية والصناعية والتجارية والخدمية في عصر محمد علي - علي مدي ما يقرب من نصف قرن (1805 1849) - جعلت مصر صاحبة مشروع ريادي فذ في القرن التاسع عشر سبقت به نهضة الميجي في اليابان (Meiji) التي بدأت في العام ،1868 كما كان البون الزمني شاسعاً ما بينها وبين الصين التي شرعت في التطوير الاقتصادي المؤشر للنهضة في العقد السابع من القرن العشرين ودون فواصل زمنية ملحوظة طفقت نمور جنوب شرقي آسيا تغزل علي ذات المنوال، وفي عصر اسماعيل (1863 1879) أخذت هذه السبيكة تتفكك شيئاً فشيئاً إلي أن أفسحت الحرب العالمية الأولي المجال علي سعته للاقتصاد ذي الأدوات والآليات الليبرالية ان يهيمن علي أكثر القطاعات الاقتصادية تأثيراً في مصر. ومن الملاحظ أن إرهاصات الزواج التنموي ما بين الرأسمالية الزراعية والرأسمالية التجارية والرأسمالية الصناعية قد بزغت علي نحو قوي نسبياً في عصر إسماعيل الذي افتتحت في عهده قناة السويس التي أمدت الاقتصاد المصري القطاعي والكلي بعوامل قوة مضافة وتنويعات في الأنشطة الصناعية والتجارية والخدمية متواسعة الدوائر. في زمن محمد علي بدأت جهود إرساء أسس البنية الأساسية بوحي من ازدهار النهضة الأوروبية التي أحدثت انقلابات جذرية علي كثير من الأصعدة وحملت أمواج البحر المتوسط أصداء التطورات المتلاحقة. وقد أدرك محمد علي علي نحو مبكر بفطنة صناع الرؤي الاستراتيجية ان القواعد العلمية ورءوس الأموال الذهنية المتعددة بالمعارف والخبرات تدخل في تصانيف البني الأساسية لإعادة بناء الأمم ومعاودة هيكلة اقتصاداتها. فعمد إلي إرسال البعثات وإنشاء (الفابريقات) Fabrics وشرع في إدماج الصناعات الحديثة في اقتصاد كان ينتمي بمكوناته وآلياته إلي حقبة القرون الوسطي. ولأن التنمية بعناصرها من التطور والتقدم لا تعترف بالفجوات أو الحلقات المفقودة فقد واصل إسماعيل السعي علي نهج محمد علي لكن بصورة أكثر اتساعاً وشمولاً فدأب علي أوربة الاقتصاد المصري في لحمته وسداته وأعانته علي ذلك بقوة دفع ملحوظة قناة السويس التي دولت كثيراً من تفاعلات الدوائر والقطاعات الاقتصادية في مصر. في أبسط وأنصع عبارة يعتبر الوالي محمد علي وحفيده الخديو اسماعيل هما نقاط البداية الحقيقية، هما مؤسسا اقتصادات رأسمالية الدولة في عهد الأول والرأسمالية الليبرالية التي ارتدت ثياب الخصخصة في حقبة حكم الثاني الذي كان صانعاً لعصر جديد بمبادئه وتغييراته (Epoch - Making). في الربع الأخير من القرن التاسع عشر دخل الاقتصاد المصري في فترة كساد استثماري وإنتاجي أفضي إلي ركود في التكوينات الرأسمالية وتنامي الركائز الهيكلية وتوسع الأنشطة الاقتصادية المنتجة للدخول والخالقة لفرص التوظف والمؤدية إلي توسعة الأسواق الاستهلاكية. ومن الملاحظ أن التوسع العمراني والزراعي والتجاري قد أحرز وثبات مشهودة في ذينك العصرين إذ بلغت الرقعة الزراعية ستة ملايين فدان (25 كيلو متراً مربعاً) 5.2% من جملة مساحة مصر فيما كان تعداد السكان 3 ملايين نسمة أي أن متوسط نصيب الفرد من الأراضي الزراعية كان فدانين. الفجوة التي رافقت عصر الخديو توفيق وضيق الاقتصاد المصري في محنة التردي التي أوشكت أن تطحن عظام الاقتصاد المصري وتجفف ينابيعه ومجاريه. فقد كانت سنوات عجاف أفرغت التنمية من فعاليات بناء قدرات جديدة. بيد أن الموازين المختلة أخذت في الاعتدال رويداً رويداً وجاءت بواكير الحرب العالمية الأولي مثل الموجة المحيطية (Ocean wave) لتلقي علي شطآن الاقتصاد المصري أطواق النجاة لسبيين رئيسيين أولهما أن الواردات إلي مصر صارت عرضة لتهديدات الأعمال الحربية لاسيما بحراً مما جعل الطلب علي السلع والبضائع المصنعة محلياً يزيد عن المعروض منها وثانيهما أن جزءاً لا بأس به من احتياجات ولوازم القوات البريطانية ركزت علي الاشباع من السوق المحلية. وفرض قانون العرض والطلب شريعته واملاءاته علي البناء الهيكلي للاقتصاد المصري فاتجهت طاقات الإنتاج الزراعي إلي مجاراة هذا الطلب الطارئ، كما عكفت المخرجات المصنوعة في الورش والمصانع القائمة علي اللحاق بهذا الازدهار فوسعت من خطوطها ومع ضغوط الطلب المتصاعد بقفزات واسعة كان أمراً مقضياً ان تقام مصانع أخري جديدة. وردمت الفجوة مرحلياً غير أن هذا الثراء النقدي العريض ضل سبيله إلي التحول إلي تكوينات رأسمالية لها تأثيرها الفعال علي الصعود بالاقتصاد المصري إلي مدارات أعلي وأوسع. وبقي هذا الاقتصاد مثل سلحفاة فقدت درقتها وتراجعت سرعتها ومضت رياح الازدهار الموقوت وكأنها كانت زوبعة في فنجان. سيعاود الاقتصاد المصري هذه السيرة الأولي علي مشارف الحرب العالمية الثانية إلا أن القضية أعيدت بحذافيرها الأمر الذي ترك للانهاك فرصة لغزو كوامن القوة في جسد هذا الاقتصاد الذي اتيحت له فرصة ذهبية وتحديات تمثل حوافز وتحركات لكنها أهملت ولم نجن منها شروي نقير والأمر يحتاج إلي إطلالة لاحقة.