كان غريباً أن يتزامن حديث إسرائيل عن خطة شارون بالانسحاب من غزة مع تصعيد حملاتها العسكرية لاستئصال أكبر عدد ممكن من المنازل والرموز الفلسطينية. ويكفي أن محصلة ما هدمته إسرائيل من منازل منذ 29 سبتمبر سنة 2000 بدء الانتفاضة الثانية وحتي الآن قد بلغ مجموعه ما يزيد علي ثلاثة آلاف منزل بدعوي إزالة الانفاق التي يستخدمها الفلسطينيون في تهريب السلاح. أما هدف إسرائيل الحقيقي من وراء هدم المنازل فهو خلق منطقة واسعة تمكنها من فرض سيطرتها علي قطاع غزة في المستقبل رغم مصادقة الكنيست علي الانسحاب منه. شهادة حق لم يغب الحادث عن كل مراقب منصف بما في ذلك منظمة هيومان رايتس ووتش، وهي المنظمة الأمريكية لحقوق الإنسان والتي أصدرت تقريراً تدين فيه حملة إسرائيل العسكرية في غزة وتشكك في الذرائع التي اختلقتها وسوقتها للمضي قدماً في عملياتها الإجرامية خاصة تلك التي نفذتها في شمال غزة وأطلقت عليها اسم "أيام الندم"، واستمرت منذ 28 سبتمبر وحتي 15 أكتوبر من العام الماضي وقتلت خلالها ما يربو علي المائة وخمسين فلسطينياً وهدمت ما يربو علي 350 بيتاً. لقد أكد تقرير المنظمة المذكورة أن ما قامت به إسرائيل في شمال غزة هو عمل غير مشروع وحذرت في حينه من أن إسرائيل بصدد إنشاء منطقة عازلة بمحاذاة الحدود بين قطاع غزة ومصر وأنها تعمد إلي توسيع هذه المنطقة باخلائها من الفلسطينيين من خلال تدمير مئات المنازل حتي تمضي قدماً في تنفيذ خطة شارون بفك الارتباط مع قطاع غزة. مناورة شارون..! لا أظن أن المستقبل يبشر بأي ضوء في نهاية النفق المظلم. ذلك أن ما يشجع إسرائيل علي المضي في سياستها هو غياب المحاسبة الدولية علي جرائمها فضلاً عن مظلة الدعم الأمريكي لها الأمر الذي حدا بها إلي الاجتراء علي الجميع. ورغم أنها هي المدانة بادرت بقلب الطاولة علي الفلسطينيين وطالبتهم بوأد المقاومة. ولابد أن المسئولين المصريين من خلال مباحثاتهم مع إسرائيل قد أدركوا أن خطة شارون هي مغامرة ومناورة ولابد من التعامل معها بحذر بالغ. ولهذا كان ما طرحته مصر يمثل محاولة لقطع الطريق علي شارون في تنفيذ خريطته وفق أهوائه ومطامعه علي حساب الفلسطينيين. شروط مصرية فماذا فعلت مصر ضماناً لعدم تنفيذ شارون لشطحاته؟ قدمت عدة شروط أولها أن يكون الانسحاب من غزة جزءاً من خطة شاملة للانسحاب من الضفة لتفويت الفرصة علي إسرائيل في تكثيف الاستيطان في الضفة كبديل عن غزة. وثاني هذه الشروط ضرورة وقف بناء الجدار العازل الذي قد تضم مساحات كبيرة والأراضي الفلسطينية. وكلا الشرطين يمثلان ضرورة من أجل إقامة دولة فلسطينية تضم غزة والضفة معاً. وثالث هذه الشروط حل القضايا التي مازالت عالقة حتي الآن وهي القدس واللاجئون والحدود والاستيطان وفق القرارات الدولية الصادرة عن الأممالمتحدة والمجتمع الدولي. ورابعها أن يتم تنفيذ الانسحاب في إطار خريطة الطريق، وهو المقترح الأمريكي الذي حاول شارون الالتفاف عليه بل وأعلن وفاته عندما رفضه منذ البداية من خلال تحفظاته الأربعة عشر ومن خلال المضي قدماً وبالتوازي في بناء جدار الفصل العنصري الذي يعني تكثيف الاستيطان وقضم الأراضي الفلسطينية وتوريط الجميع في خطته الرامية إلي منع إقامة الدولة الفلسطينية. أين هي خريطة الطريق؟! ولعل ما يثير المخاوف من تحركات شارون هو أن خطته التي صادق عليها الكنيست في السادس والعشرين من أكتوبر الماضي بأغلبية 67 صوتاً يظل تنفيذها غير مضمون أو علي الأقل تظل هناك مخاوف من أن يجري تنفيذها وفق الرؤية الاسرائيلية بحيث يتم افراغها من مضمونها ويخلص الأمر في النهاية إلي تنفيذ خطة تتماشي مع أطماع إسرائيل في الاطاحة باقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وتجميد عملية السلام وتشديد القبضة علي بقية الأرض الفلسطينيةالمحتلة أما مبحث القلق فيمتد إلي الدعم الأمريكي الكامل لكل ما تقدم عليه إسرائيل حتي أن ارهابها ضد الفلسطينيين غدا غير مرئي بفضل أمريكا التي أغمضت عيون الجميع وحولت الأنظار بعيدا عن الارهاب الذي تمارسه إسرائيل ضد الفلسطينيين وذلك بفتح جبهة الحرب الاستعمارية التي تشنها أمريكا علي أفغانستان والعراق ومنح ذلك الفرصة لشارون لكي تكون الساحة منطلقا لمخططاته ولهذا كان جون دوجارد الخبير والمراقب الدولي للأوضاع في فلسطين علي حق عندما قال مؤخرا: العالم لا يجد أمريكا في مقعد الزعامة الذي تحتله خاصة في الشرق الأوسط أمريكا هي التي شجعت السياسات الاسرائيلية علي أن تنتهك خريطة الطريق أي أن أمريكا طرحت خريطة الطريق ذراً للرماد في العيون ثم ما لبثت أن تواطأت مع إسرائيل لطمسها.