يبدو أن الفضائح المالية المحيطة ببرنامج "النفط مقابل الغذاء" سوف تلحق بقضايا الفساد الدولية الشهيرة التي اصابها التعتيم ثم التجاهل كما ستنضم الي قائمة الملفات الغامضة بشأن غزو العراق كملف اسلحة الدمار الشامل لتصبح في ذمة التاريخ واحدة من العناصر المكونة لمأساة بداية الالفية الثالثة التي اصطلح علي تسميتها بالحرب علي الارهاب أو الحرب من أجل البترول.. والأموال. قبل أيام قليلة صدر التقرير الأولي عن اللجنة الدولية المكلفة بالبحث والتحقيق في المخالفات الذائعة الصيت والانتشار محتويا تقريبا لا شيء سوي بيان بأسماء وعدد الشركات "المتورطة" في البرنامج مع وعد باحتمال ان تتوصل اللجنة الي نتائج بشأن الاتهامات بحلول منتصف العام القادم وكما هو معلوم وكما كان معلوما دائما فان البرنامج الذي شرعت في تنفيذه الأممالمتحدة في ديسمبر عام 1996 واستمر حتي اكتوبر الماضي قد شابه الكثير من المخالفات المالية والرشاوي والتحايلات بانواعها رغم ان البرنامج كان هدفه المعلن انسانياً بحتاً لانقاذ شعب العراق وهو تحت الحصار ومده باحتياجاته الاساسية مقابل مبيعات نفطية محددة وكان تنفيذ هذا البرنامج يتم باشراف الاممالمتحدة وبالتعاون مع الحكومة العراقية وقتها (حكومة صدام حسين) حيث كانت تتولي تقديم قوائم الواردات المطلوبة من الخارج وعند موافقة الاممالمتحدة عليها كان يتم اسناد هذه الطلبيات الي شركات يجري الاتفاق عليها بين حكومة العراق ولجنة مشكلة من الاممالمتحدة لهذا الغرض، هذا في جانب المشتريات أما في جانب المبيعات فقد كان يتم الاتفاق علي ضخ كميات من النفط توضع عوائدها في حساب خاص يصرف منه علي سداد مشتريات العراق في اطار هذا البرنامج كما يجنب القسم الاكبر منه (40 مليار دولار) تحت حساب التعويضات المطلوبة من العراق جراء غزوه للكويت في اغسطس عام 1990 ومفهوم ومعلن أيضا ان تعاقدات النفط كما في تعاقدات المشتريات من الخارج كانت تنطوي علي قدر هائل من الرشاوي والمخالفات والبيع باقل من سعر السوق والسماح بضخ كميات من النفط باكثر مما هو منصوص عليه في التعاقد حتي يتمكن صدام واعوانه من جمع الاموال التي يحتاجونها للانفاق علي الاغراض التي لا تقرها الاممالمتحدة وفقا لاتفاقية البرنامج الشهير. روائح الفساد المصاحب لتنفيذ البرنامج زكمت كل الانوف منذ بدء تنفيذه والمتورطون فيه كانوا معروفين علي وجه العموم طيلة السنوات الثماني التي استغرقتها عمليات البرنامج وفي يناير الماضي نشرت صحيفة عراقية مغمورة بيانا باسماء المستفيدين من البرنامج تحت عنوان مثير (كوبونات صدام) وقد طالت القائمة التي قيل انها من تسريبات المخابرات الامريكية مسئولين كباراً عربا واجانب بينهم رؤساء دول وحكومات اضافة الي رجال مال واعمال وصحفيين ومفكرين ايضا!! القضية كانت معروفة طوال الوقت علي الاقل لدي اجهزة المخابرات المعنية والدوائر الاعلامية القريبة منها الا ان اجراء من أي نوع لم يتخذ لوقف هذا النزيف في ثروة الشعب العراقي حتي تطلبت الأحوال السياسية اظهار هذا الملف وكشفه للناس فكان ان قررت الأممالمتحدة تشكيل لجنة للتحقيق في مزاعم الانتهاكات التي صاحبت تنفيذ صفقات برنامج "النفط مقابل الغذاء" والتي نشرت تقريرها الأول بداية الاسبوع. التقرير احتوي بعض المعلومات العامة منها ان حجم المشتريات الغذائية التي تمت خلال عمر البرنامج بلغت 2.64 مليار دولار وان عدد الشركات التي ساهمت في توريد هذه المشتريات وصل إلي 4734 شركة من انحاء العالم وأن عدد الشركات التي تعاملت في شراء النفط العراقي خلال هذه الفترة بلغ 248 شركة وقد حرص التقرير علي التأكيد ان ذكر هذه الشركات لا يعني انها متورطة في مخالفات مالية او تحايلات وطالب بالصبر لحين الانتهاء من التحقيقات ومع ذلك فان الصبر هنا لا معني ولا مبرر له حيث ان عدة شركات بدأت بالفعل في محاكمة مسئولين كبار فيها بتهمة التورط في مخالفات البرنامج العراقي كان آخرها شركة توتال الفرنسية المشهورة للنفط ذات التعاملات الواسعة في السوق العراقي ومن ناحية ثانية فإن كل المسئولين العراقيين عن ادارة البرنامج هم الآن في السجون التي تديرها قوات التحالف ولابد ان التحقيقات معهم "تطرقت" الي قصص صفقات " النفط مقابل الغذاء" فضلا عن المبيعات النفطية العراقية غير الشرعية التي كانت سمة الحياة الاقتصادية هناك طوال التسعينيات وحتي سقوط صدام.. لكن هذه قصة اخري. تحقيقات الاممالمتحدة رصد لها مبلغ يصل الي 40 مليون دولار مستقطع من حساب عوائد البرنامج! وقد اسندت رئاسة اللجنة الي شخص يدعي جون فولكير يشار اليه بانه حاكم سابق للبنك المركزي الامريكي والفرض ان قرائن الفساد التي كانت واضحة طوال السنوات الماضية قد تدعمت بالتحقيقات التي جرت وتجري مع المسئولين البعثيين السابقين بمن فيهم صدام نفسه. وهم رهن الاعتقال ووصول اعضاء اللجنة اليهم لا يعد مشكلة علي أية حال فلماذا الارجاء والتأخير إذا؟ إن التقرير الاول المخيب للآمال يفتح المجال الواسع للشك بان هناك مصالح ترغب في طي هذه الصفحة بحلوها ومرها أو ان التحقيق الجنائي قد تحول الي تحقيق سياسي يتم بطريقة انتقائية حتي لا يضار نفر من الناس لا تري اللجنة مصلحة في ادانتهم خاصة ان الاموال انفقت وانتهي الامر كما سقط النظام نفسه الذي كان الطرف العراقي في توقيع هذه الصفقات.. هذه المخالفات.