عندما عقد آخر مؤتمر قمة عربية يحضره الرئيس الراحل جمال عبد الناصر قبل وفاته بساعات، في سبتمبر ،1970 فوجئ أصحاب الجلالة والفخامة والسمو ملوك ورؤساء وأمراء الدول العربية بالرئيس اللبناني شارل حلو يطلب الكلمة وهو ينظر في ساعته باهتمام شديد. فلماذا ينظر إلي الساعة بهذا الشكل وهو في اجتماع القمة، وهل يكون لديه اجتماع وارتباط أهم من القمة؟ المفاجأة الأكبر لأصحاب الجلالة والفخامة والسمو أن الرئيس شارل حلو فاجأهم بقوله ان فترة رئاسته لبلاد الأرز قد انتهت في هذه الثانية التي يتكلم فيها معهم، وبدأت ولاية الرئيس سليمان فرنجيه الذي انتخبه مجلس النواب بأغلبية صوت واحد، ولهذا فانه يعلن انسحابه من القمة لأنه لم تعد له صفة، ويقترح دعوة الرئيس الجديد "فرنجيه" لتمثيل لبنان. هذه الكلمات البسيطة والواضحة كان لها وقع الصاعقة علي أهل القمة الذين تعارفوا طويلا علي أنه ما من سبيل لانتهاء ولاية أحدهم إلا بالوفاة الطبيعية أو القتل أو الخلع. ولهذا.. بقينا سنوات عديدة نحسد لبنان علي هذه الحرية النسبية المفتقدة في معظم انحاء العالم العربي.. وتحسرنا عليه عندما مزقته الحرب الأهلية التي اندلعت عام 1975 واستمرت نحو 15 عاما رهيبة. وعادت إلينا الثقة في هذا البلد العربي الجميل والفريد بعد أن وضعت الحرب الأهلية المجنونة أوزارها واستردت ماكينة الديموقراطية النسبية دورانها في بيروت. هذا التراث الذي كنا نحسد عليه بلاد الأرز تبدد مؤخراً بضربة واحدة، حين وافقت الحكومة اللبنانية علي مشروع قرار يقضي بتعديل الدستور للسماح للرئيس اميل لحود بتمديد ولايته لمدة ثلاثة أعوام اضافية، ثم سرعان ما صوت مجلس النواب "البرلمان" علي مشروع القرار الذي يعطي الحق للرئيس في البقاء في منصبه حتي 23 نوفمبر 2007 بعد أن كان مقرراً أن يسلم مفاتيح قصر الرئاسة بعد 77 يوماً من الآن. هذا التراجع علي حد تعبر النائب نسيب لحود رئيس حركة التجدد الديموقراطي يعد "خطوة تناقض ما أقسم عليه الرئيس اميل لحود باحترام الدستور". لماذا؟ لأن الرئيس لحود "قد أعلن عزمه علي تمديد بقائه في سدة رئاسة الجمهورية خلافا للمادة 49 من الدستور معللا تلك الخطوة برغبته بتنفيذ ما وعد به في "خطاب القسم" عندما تولي منصبه الرئاسي عام 1998 وكأن هذا الخطاب قد أضحي في نظره أرفع شأنا وأسمي مقاما من الدستور في حين أن "الدستور هو القانون الأساسي للدولة اللبنانية وهو ثمرة توافق اللبنانيين وحوارهم العميق والطويل والمضني، وهو يعلو فوق أي نص سياسي، والواجب الأول للرئيس هو التزام الدستور والتزام القسم نفسه قبل الحديث عن التزام "خطاب القسم". فما بالك وان "الضوابط التي تتضمنها المادة 49 من الدستور خصوصا تلك المانعة للتمديد أو التجديد أو إعادة الانتخاب إلا بعد مضي ست سنوات علي انتهاء الولاية، وضعت لحماية النظام الديمقراطي، أي تحديدا كي لا يتذرع رئيس من أجل البقاء في الحكم بالرغبة في أداء مهمة خارقة لا يقوي عليها أحد سواه". وضاعف من الغضب الشعبي ان هذا التلاعب بالدستور لم يتم فقط علي يد حفنة من السياسيين اللبنانيين (96 نائبا في البرلمان اللبناني هم اجمالي عدد الموافقين علي العصف بهذه المادة الدستورية المستقرة)، وانما جاء ايضا وفي المقام الأول بناء علي ضغوط سورية. وهذه المسألة الأخيرة أثارت حنق قطاعات عريضة من اللبنانيين، لم تقتصر فقط علي الفئات التقليدية المطالبة بانسحاب القوات السورية من لبنان وانما شملت ايضا فئات واسعة من بينها فئات معروفة بصداقتها لسوريا ودفاعها المستميت عن ضرورة الحفاظ علي العلاقات الاستراتيجية المتينة بين لبنان وسوريا. الأمر الذي جعل كاتبا كبيراً مثل طلال سلمان المعروف بصداقته لدمشق يكتب باستغراب شديد أن "اللبنانيين الذين يحفظون التقدير للقيادة السورية لم يعرفوا، علي وجه الدقة، الأسباب التي حدث بها إلي التمسك باميل لحود رئيسا، خلافا للنص الدستوري، وتخصيصه بامتياز استثنائي، في حين أن تجربته في الحكم لم تكن ناجحة لبنانيا، بل هي إلي الفشل أقرب". ويتساءل مندهشاً: بماذا يمتاز اميل لحود علي جان عبيد، مثلا، وهو صديق تاريخي للقيادة السورية منذ أربعين عاما.. وبماذا يمتاز علي ميشال اده.. الذي رد ذات يوم علي المطالبين بالخروج السوري مطلقا جملته الشهيرة: أنا مستعد أن أنام أمام الدبابات السورية لأمنع مغادرتها لبنان وتركه لمخاطر الاجتياج الإسرائيلي والهيمنة الأجنبية؟". أما هذا النوع من الاسئلة المدهشة لا يجد طلال سلمان مفراً من أن يفترض اللبنانيون أنة لابد أن يكون لسوريا من الأسباب ما لا يعرفونة مما ألزمها بالاصرار علي اميل لحود رئيسا لنصف ولاية جديدة.