في مقال سابق تحدثنا عن ظاهرة تزييف الوعي الجمعي للمصريين الذي جاء بمثابة خصم من الرأسمال المجتمعي الذي هو في الأساس العمود الفقري لتنعم الأمم ورفاهية شعوبها وذكرت أن هذا التزييف حدث نتيجة لخلط الدين بالسياسة استغلالا لظروف معيشية قاسية اتسمت بالجهل والفقر والمرض وأوجدت تربة لنثر بذور هذا الخلط ثم جني ثمارها من جانب أصحاب أجندات خاصة بصرف النظر عن صالح الوطن والمواطن. وفي السطور القادمة سنلقي الضوء علي الذين أعطوا إجازة واستراحة ضمائرهم بطريقة نتج عنها تعطيل أحلام أمة بأسرها بعد أن زيف وعيها الجمعي!! الناظر بروية إلي المجتمع المصري بعد عامين من ثورة الخامس والعشرين من يناير عليه اكتشاف مجموعة من الممارسات التي قامت بها النخبة المصرية سواء تلك التي صنفت كتيار سياسي ديني أو مدني بكل أطيافهما ومشتقاتهما وفصائلهما. ممارسات ظاهرها صالح البلاد والعباد وباطنها مصالح أصحابها مضحين بالغالي والنفيس وهو الوطن والمواطن من أجل أجنداتهم وطموحاتهم ومصالحهم تلاعبا بمقدرات ومستقبل شعب، ضاربين عرض الحائط بتضحيات قدمت ودماء أريقت وطموحات انتظرت ولأحلام طاهرة ولأقلام شريفة قصفت وشرد أصحابها وبشعب ترقب وصبر طويلا أملا في لحظة الخلاص الذي ظن بحسن نية وطيب خاطر أنها تحققت يوم الخامس والعشرين فإذا به يطاح بأمله ويتم التلاعب بأحلامه ولا يجد قوت يومه ويطالب بأن يسدد من خزينته الخاوية فاتورة قاسية لصالح النخبة وتطلعاتها وأجنداتها الخاصة. حلم الشعب بالديمقراطية من خلال صناديق الانتخابات والاستفتاءات التي تم تزويرها علي مدي عقود من السنوات علي مرأي ومسمع من العالم قبل الثورة فإذا بهذه الصناديق يتم تزويرها ليس فقط باستغلال حاجة الناخبين لملء بطونهم ولكن بتزييف وعيهم وغسل عقولهم. انتظر الشعب تطبيق القانون وسيادته فإذا به يشهد ألاعيب وممارسات ملعونة للقفز علي استقلال القضاء المنوط به العمل بالقانون وتطبيقه.. رأي الشعب محاصرة القضاة في محرابهم تحت مباركة الدولة وغياب أجهزتها السيادية من الشرطة والجيش عن مسئوليتهما المنوطة بهما في حفظ قدسية القضاء ومحرابه. انتظر الشعب حرية الكلمة فرأي بأم عينه محاصرة المنابر الإعلامية التي تنطلق من مدينة الإنتاج الإعلامي إلي جموع الجماهير حيث من المفترض أن تقوم بنقل الحدث ومناقشته وتحليله وتشرك هذه الجماهير في صنع مستقبلها وإعادة صنع وعيها. انتظر الشعب الكلمة المسئولة والرأي المستنير فوجد أن أغلب المنابر الإعلامية ما هي إلا أبواق تتصارع كالديوك وتنهش في لحم المجتمع وعقول أبنائه وتأخذهم إلي مالا يسمن ولا يغني من جوع.. ناهيك عن الإسفاف الواضح في الخطاب الإعلامي المنتشر علي الساحة والذي لا يخلو من تناول الأكاذيب والشائعات وتبادل التهم والشتائم واستخدامه للغة غريبة شاذة عن كل تقاليد المجتمع الراسخة. انتظر الشعب لقمة العيش البسيطة التي تشبع جوعه وتحفظ كرامته فإذا به يضطر إلي الانضمام إلي الجموع الفقيرة في طوابير البطالة والتسول ويضطر إلي ممارسة أعمال البلطجة والنهب! انتظر الشعب الأمن والأمان فإذا به يجد بعد عامين من وعود عودة الشرطة لأداء دورها استمرار الجرائم والإضرابات والاعتصامات والفوضي والتعديات علي القانون وعلي الأنفس والأعراض والأموال. انتظر الشعب الوعود البراقة بجذب الاستثمارات وتدفق المنح والمعونات من الخارج وتحقيق مشروع النهضة لأردوغان العرب ومشروع جمع تبرعات بمائة مليار جنيه الصادر من شيخ السلفيين الجدد فإذا بالاستثمارات تعزف عن الوصول ويهرب منها ما هو قائم وموجود، ومشروع النهضة يتبخر مع المشروع الآخر الهلامي! ويخرج المواطن الموعود صفر اليدين من حفلات الزار الاقتصادية. انتظر الناخب أن تخرج جميع القوي والتيارات السياسية دينية أو مدنية من ميدان التحرير منتصرة شامخة متوحدة تلتف حول مشروع واحد وآليات محددة لتحقيق أهداف الثورة "عيش حرية كرامة" وتبني نظام جديد فإذا بها تقف عند هدم القديم ولا تنظر إلي المستقبل بمسئولياته الضخمة وتتجمد عند نقطة التشفي وتصفية الحسابات والأخذ بالثأر!! انتظر الشعب وضع دستور جديد يعبر عن مصر الوحيدة بعد الثورة وعن إرادة شعب يتطلع إلي مستقبل أفضل تسود فيه الحريات والعدالة الاجتماعية ويرسخ لمبدأ المواطنة والانتماء ويتوافق عليه جميع فئات الشعب فإذا به يفاجأ بدستور يكرس الاقتصاد بل يغير هوية الدولة المصرية التي ترسخت عبر القرون.. دستور يضع ألغاماً وقنابل موقوتة جاهزة للانفجار في أول اختبار حقيقي له. هل تبخرت الأحلام وبعدت الثقة وتسرب اليأس وضاع الأمل؟ لم تكن نخبة التيار الإسلامي هي المسئولة بمفردها عن كل ما تقدم ولكن كان للنخبة من التيار المدني نفس القدر من المسئولية! فهل تعطلت الضمائر أم أنها في إجازة؟ هل هي ثقوب في ضمائر النخبة أدت إلي تعطيل حلم الثورة وإلي انقسام المجتمع أم هو التعطل الكامل لهذه الضمائر؟ أين استحقاقات الثوار الذين هجروا الثورة وهم أصحاب الحق الأول في بناء المستقبل؟ أين حمرة الخجل التي لا تبدو علي وجوه أصحاب اللحية بعد أن داسوا بأقدامهم علي دماء الشهداء واستمدوا منها شعاراتهم الطنانة التي ملأت حناجرهم العنترية وجيوبهم التي كانت خاوية قبل أن يرتعوا بالأصوات هنا وهناك وتحتل صورهم صفحات جرائدهم وقناواتهم الفضائية؟ تبدلت المواقف ودفنت المبادئ وتم تحريم ما هو حلال وتحليل ما هو حرام، واستبيحت الأعراض وانتهكت الحرمات وغني كل منهم علي ليلاه مستهدفا مصالح ومنافع خاصة علي حساب جثة الوطن والمواطن. إن الشهور المقبلة القادمة سوف تضع النخب المصرية بجميع تياراتها الدينية والمدنية علي المحك أمام المواطن لتصحيح مسيرتها وتأكيد الاستقرار والتنمية بعد أن تسببت في انقسامه وتذبذبه وإهدار طاقته بعيدا عن أي إضافة حقيقية تحقق آماله وطموحاته.. فأما أن تكون جديرة بثقة أبناء أمتهم وإلا سوف تفقد بريقها وتنكشف مآربها وسوف يفيق من يلتفون حولهم ويسيطرون علي عقولهم تحت وطأة الضغوط ووضوح الحقائق علي الأرض واستمرار معاناة المواطنين من المشكلات المزمنة دون أي مؤشرات إيجابية لحلولها وسوف يأتي وقت الحساب العسير من المواطنين لتلك النخب التي فرطت في الأمانة وخانت العهد وتخلت عن مسئولياتها.. وقت أن يدوس المخدوعون علي شعارات النخب بأقدامهم ويردوا إليهم بضاعتهم الفاسدة.. لقد قام الشعب بثورة الخامس والعشرين من يناير ضد نظام زيف إرادته فهل يثور الشعب ضد نخب زيفت وعيه وغيبت عقله وأحدثت انقساماً في أمته وعطلت حلمه. الأمل كل الأمل ألا يضطر المواطن المصري لأن يسدد من فاتورة تضحياته أكثر مما سدده بالفعل.