دائماً ما يكون في العودة إلي سطور التاريخ، وقراءة أحداثه بفكر الباحث ومنهج المدقق، ما يساعدنا كثيراً إزاء التخطيط للمستقبل، ولعل ذلك ينطبق أكثر ما ينطبق ونحن نضع حالياً القواعد الأساسية للدستور الجديد. لقد عرفت مصر الحياة النيابية منذ القرن التاسع عشر.. وكانت وقفة الزعيم أحمد عرابي أمام الخديو توفيق في سبتمبر حدثاً تاريخياً كبيراً.. وكان أحد أهم مطالب عرابي المعبرة عن الشعب هو تشكيل مجلس نواب كأحد أهم أدوات تطبيق الديمقراطية في الحكم، ومنذ تلك اللحظة بدأ يتأصل في وجدان المجتمع المصري أسلوب اختيار نائب الشعب، ولم يجد توافقا أكثر من أسلوب الالتحام المباشر مع أفراد الشعب، فلم يعرف سوي الانتخاب بالنظام الفردي، والتي تعمقت ثقافته علي مدار الأيام، حتي في ظل أخصب الفترات التي كانت تعيشها الأحزاب في مصر.. وبعد ثورة 1919 صار البرلمان معبراً عن رغبات الناخبين حيث يذهب صوت الناخب بكل اطمئنان إلي من يعرفه، ويعلق عليه آماله وهمومه، وهكذا ترسخت مفاهيم الانتخاب الديمقراطي علي أساس النظام الفردي لدي جميع طوائف الشعب بمختلف انتماءاته، حتي وصل إلي درجة اليقين والعقيدة في نفوس القائمين علي حماية الدستور وتفسير القوانين التي تعمل تحت مظلته. ولم يعرف النظام البرلماني المصري علي مدار تاريخه نظام الانخاب بالقائمة سوي مرتين وحكم عليهما بعدم الدستورية وأعيدت الانتخابات مرة أخري، كما أنه عندما تم عمل نوع من الدمج بين النظام الفردي والنظام بالقائمة في انتخابات عام 2012 حكم عليها أيضا بعدم الدستورية، وإن كان لأسباب غير أسباب المرتين السابقتين، ولكن يمكن إرجاع جميع الأسباب في جميع الحالات إلي قاسم مشترك بينهم جميعاً، تمثل فيما جاء بالحكم في بطلان انتخابات مجلس الشعب عام 1980 بأن تجربة نظام الانتخاب بالقائمة كانت غير مناسبة تماماً مع الثقافة السياسية والاجتماعية للشعب المصري، وطرحت آثاراً سيئة في الانتخابات. واستكمالاً لنضج المرحلة التي نعيشها حالياً، يثور تساؤل حول جدوي الانتخاب الفردي والانتخاب بالقائمة في ضوء ظروف وتكوين النضج السياسي والثقافي والاقتصادي للمجتمع المصري. إلا أنه قبل الحديث عن النظام المناسب، فإنه قد يكون من الأوفق أن نعطي تعريفا محددا حتي ولو كان ذلك قد جاء متأخرا في سياق الحديث بعض الشيء للمقصود بالانتخاب الفردي والانتخاب بالقائمة. ويقصد بالانتخاب الفردي أن يقوم الناخب باختيار نائب عنه يمثله في دائرة انتخابية معينة ليمثله في المجلس النيابي.. أما الانتخاب بالقائمة فهو الانتخاب الذي يقوم فيه الناخب باختيار قائمة تضم أكثر من فرد من بين القوائم المرشحة في الدائرة الانتخابية. ويتميز كل من الانتخاب الفردي ونظام الانتخاب بالقائمة بصفات خاصة تميز كلا منهما عن الآخر، كما أن الأخذ بهذا النظام أو ذاك لا يخلو من بعض السلبيات التي تنسب إليه، والفيصل في ذلك كله هو ما ترسب في عقل وقلب الشعب من طريقة الاختيار الأصوب التي تجعلنا مطمئنين في النهاية إلي صدق العملية الانتخابية. يتميز الانتخاب الفردي بالمزايا التالية: 1 يمتاز هذا النظام بالسهولة والبساطة، فالدائرة الانتخابية هنا تكون صغيرة الحجم نسبيا، وهذا يمكن الناخبين من معرفة المرشحين معرفة شخصية، ومعرفة كفاءتهم والحكم عليها، سواء عن طريق معرفة ماضيهم الوطني أو تاريخهم في العمل العام، وغير ذلك من الأمور التي تساعد الناخب علي المفاضلة بين المرشحين. 2 هذا النظام أقدر علي معرفة حاجات دائرة المرشح الانتخابية، نظرا لارتباطه الواضح بها واقترابه من أبنائها. 3 هذا النظام يحقق للجميع حرية واسعة، كما يحقق مصلحة الأقليات في بعض الأحيان عندما تكون لها أغلبية واضحة في بعض الدوائر الانتخابية، ويحرر المرشح من قبضة رئيس الحزب. إلا أن لهذا النظام بعض الجوانب السلبية، حيث يجعل اختيار النائب قائما علي أسباب محلية وشخصية، حيث يكون النائب خاضعا لناخبيه، فيكون همه الأول تحقيق مصالح أهل دائرته بصرف النظر عن تحقيق الصالح العام وحل المشكلات القومية.. حتي أن بعض الفقهاء يرون أن النائب قد يتحول إلي وكيل عن ناخبيهم لقضاء مصالحهم عند الوزراء نتيجة لضغط الناخبين عليه. أما نظام الانتخاب بالقائمة فإنه يتيح المزايا التالية: 1 يوفر العناصر والكفاءات اللازمة لإثراء العمل النيابي. 2 تكون عملية المفاضلة بين القوائم في هذا النظام قائمة علي المبادئ والبرامج الحزبية. 3 يؤدي هذا النظام إلي اهتمام الناخبين بالمسائل العامة والشئون الوطنية والقومية. 4 اطلاق حرية النواب في العمل النيابي، فلا يكون النائب تابعا لأهل دائرته، وبالتالي يستطيع العمل بحرية واستقلال لتحقيق المصلحة العليا للبلاد، وليس فقط تحقيق المصلحة الشخصية لأهل دائرته. إلا أن نظام الانتخاب بالقائمة يشوبه ما يلي: 1 تتحكم قيادات الأحزاب في وضع القوائم الانتخابية، وفي إدراج أسماء المرشحين في القوائم، وقد تخطئ في استخدام سلطتها في الاختيار. 2 ينتج عن الأخذ بالقوائم الحزبية ضياع حرية الناخب في الاختيار، نتيجة لعرض قوائم محددة يتعين عليه أن يختار إحداها دون إجراء أي تغيير أو تعديل. 3 إن نظام الانتخاب بالقائمة يصعب مهمة الناخب في الاختيار، نظرا لكبر الدائرة واتساعها وكثرة المرشحين بها. ويبقي السؤال هنا: أي النظامين نختار؟ نود أن نشير إلي أنه قد صدر القانون رقم 114 لسنة 1983 بتعديل قانون مجلس الشعب رقم 38 لسنة 1972 بتطبيق نظام الانتخاب بالقائمة، ولكن نظرا لأن هذه التجربة كانت غير مناسبة تماما مع الثقافة السياسية والاجتماعية للشعب المصري، وطرحت آثارا سيئة في الانتخابات، فكان من نتيجة ذلك أن طعن بعدم دستورية هذا القانون، ورجع المشرع إلي نظام الانتخاب الفردي بموجب القانون رقم 201 لسنة 1990 بتعديل بعض أحكام القانون رقم 38 لسنة 1972 في شأن مجلس الشعب.. كما تم الحكم بعدم دستورية بعض مواد قوانين الانتخابات مما أدي إلي حل مجلس الشعب الأخير، مع احتمال حل مجلس الشوري أيضاً بسبب النظام الانتخابي المختلط. ونود أن نؤكد في هذا المقام أنه رغم أن نظام الانتخاب بالقائمة يعتبر مرحلة متقدمة من النضج والفكر السياسي والممارسة الديمقراطية، إلا أنه يتطلب في نفس الوقت تنظيما حزبيا راقيا علي مختلف خطوطه ومستوياته وهياكله، ووعيا أيدولوجيا بفكره وأهدافه واستراتيجياته تنعكس في شكل برامج وخطط قابلة للتنفيذ الواقعي، وأن تكون هذه الأحزاب متأصلة مرتبطة ارتباطا حيا مع الجماهير تعبر عن آمالهم وتطلعاتهم، وفي المقابل تكون فكرة النزاهة والشفافية والمصداقية قد ترسبت في أعماق ووجدان الشعب، وأن تكون التجربة الديمقراطية قد بلغت مرحلة النضج الكافي بحيث تصبح أسلوب معايشة في الحياة، وهو ما نراه لم تتحقق أركانه وشروطه بعد، وأن الأمر يحتاج إلي العديد من السنين حتي نصل إلي المستوي المطلوب، الذي يحقق معاني الديمقراطية التي يتطلع إليها جميع أفراد الشعب بشكل سليم ومطمئن وعادل، لا يحمل أي شبهات من تدليس ديمقراطي إن صح التعبير. وحتي نصل :إلي هذه المرحلة المأمولة من الانتخاب بالقائمة، فإننا نري الاستمرار في الالتزام بالانتخاب الفردي الذي يلقي حاليا قبولا عاما يتناسب مع درجة التحول في الفكر والتنظيم والمعايشة، ويمكن معالجة الآثار الجانبية لهذا النظام الفردي في ظل أجواء الديمقراطية الحرة النزيهة التي نتنسم نسيمها، والتي لا شك سوف تسفر عن علاقة أكثر وعيا بين الناخب وأهل دائرته، وبالاختيار الجيد من الأحزاب لمرشحيها، بما يحقق الصالح العام لأبناء الوطن جميعاً.