رغم كل الجهود التي بذلت وتبذل من أجل تحجيمها فإن أزمة منطقة اليورو تزداد تفاقماً وتعقيداً.. وقد كان شهر أغسطس شهراً كئيباً علي دول المنطقة ففي نهاية يوليو أعلن ماريو دراجي رئيس البنك المركزي الأوروبي أنه سيفعل كل ما في وسعه لخفض تكاليف الاقتراض في إيطاليا وإسبانيا أكبر دولتين مأزومتين في منطقة اليورو.. وفي نفس الوقت تقريباً قام رئيس الوزراء اليوناني انطونيس ساماراز بزيارة نظيريه في باريس وبرلين طالبا منهما فسحة من الوقت لتحقيق الخفض المقرر في عجز الموازنة وليس للحصول علي مزيد من الدعم المالي علي حد قوله.. ووسط هذه التحركات أمكن تأجيل الصدام بين الحكومة اليونانية ودائنيها إلي حين حسم موقف البنك المركزي الأوروبي والمفوضية الأوروبية وصندوق النقد الدولي من إقرار شريحة الدعم القادمة المنتظر تقديمها إلي اليونان.. ولكن المراهنة علي استمرار هذه التهدئة الموقتة في أزمة دول اليورو لم تكن مسألة منطقية حيث سرعان ما ظهرت كآبة أغسطس الأوروبي المعتادة لتطل برأسها هذه المرة من فنلندا وليس من اليونان أو إسبانيا أو إيطاليا. وتقول مجلة "الإيكونوميست" إن الاقتصاد اليوناني يعاني ركوداً عميقاً وانكماشاً بلغ أكثر من 3% في إجمالي الناتج المحلي خلال الربع الثاني من هذا العام.. أما الألمان فإنهم يبدون عناداً لا يلين في عدم دفع أية أموال جديد لإنقاذ دول اليورو من أزمتها.. ولايزال البنك المركزي الألماني يعارض خطط البنك المركزي الأوروبي لشراء السندات الإيطالية والإسبانية من أجل خفض تكاليف الاقتراض علي هذين البلدين.. ويحدث هذا مثلاً بينما الحكومة الإيطالية تجاهد من أجل ضبط مالياتها عن طريق التشدد في محاربة التهرب الضريبي.. ويعلن ماريو مونتي رئيس وزراء إيطاليا أن مجابهة المتهربين من الضرائب شيء أشبه بالحرب وأن معدل التهرب الضريبي يناهز 18% من إجمالي الناتج المحلي أي نحو 285 مليار يورو "355 مليار دولار" وهو رقم يصنع فجوة مؤلمة في الماليات العامة للبلاد.. ولا شك أن مجرد مراجعة عدد اليخوت الراسية علي شواطئ المنتجعات الصيفية الإيطالية وفخامة هذه اليخوت أمر يقطع بأن مونتي علي حق وأن أثرياء إيطاليا كثيرون ولكنهم فيما يبدو أدمنوا التهرب الضريبي والتملص من المساهمة في إقالة الوطن من عثرته الاقتصادية. والمشكلة الأفدح أن هناك بعض دول اليورو التي يعتمد اقتصادها علي شركة واحدة ومن هذه الدول لكسمبرج التي تعتمد كثيراً علي شركة أركيلور ميتول وهي شركة بلغت إيراداتها في عام 2011 نحو 161% من إجمالي الناتج المحلي للكسمبرج وكذلك هولندا صاحبة شركة رويال دوتش شل ذات الإيرادات التي تناهز ال 56% من إجمالي الناتج المحلي الهولندي في عام 2011 والنرويج وشركتها المميزة هي ستيتويل التي بلغت إيراداتها 24% من إجمالي الناتج المحلي النرويجي خلال ذات السنة وأخيراً فنلندا صاحبة شركة نوكيا التي بلغ إجمالي إيراداتها 20% من إجمالي الناتج المحلي الفنلندي خلال عام 2011. ومن فنلندا هذه تفجرت أحدث أزمات دول منطقة اليورو وظهر أن عرقلة جهود إنقاذ منطقة اليورو من التفكك والانهيار لن يحدث من برلين وإنما من مكان آخر تماماً هو العاصمة الفنلندية هلسنكي.. ففي يوليو الماضي أعلنت جوتايور بيلينين وزيرة مالية فنلندا أن بلادها لن تربط نفسها بمصير اليورو بأي ثمن وأنها عند حدود معينة قد تنسحب من هذه المنطقة.. وأنها أكثر من ذلك غير مستعدة لتحمل أي جزء من ديون دول اليورو الأخري.. وبعد ذلك كشف وزير الخارجية الفنلندي إيركي توميوجا عن أن بلاده قد وضعت خطة طوارئ لمواجهة احتمال تفكك منطقة اليورو في أي وقت.. أكثر من ذلك فقد طلبت فنلندا ضمانات إضافية للجزء الذي تحملته من شريحة الدعم الثانية التي قدمتها دول اليورو إلي اليونان وهو أمر غير مسبوق.. كما طلبت ضمانات إضافية للمبالغ التي شطبتها من أجل مساعدة بنوك إسبانيا علي الخروج من أزمتها.. وهكذا يبدو من الواضح أن فنلندا ستقف ضد أي مساومة تفاوضية يكون من شأنها أن تتحمل جزءاً من ديون دول اليورو المأزومة.. حتي صار هناك اعتقاد لدي بعض المراقبين أن احتمال خروج فنلندا من منطقة اليورو أقرب من احتمال خروج اليونان من هذه المنطقة وأن جرس الإنذار من تفكك دول اليورو قد جاء من فنلندا هذه المرة وليس من اليونان أو ألمانيا كما أن الظن من قبل. وتقول مجلة "الإيكونوميست" إن فنلندا ستخسر من أي صفقة للتشارك في الديون بين دول اليورو.. وهنا تقول أرقام صندوق النقد الدولي إن المتوسط العام لديون دول اليورو في عام 2013 سيصل إلي 91% من إجمالي الناتج المحلي في حين أن النسبة المماثلة في فنلندا لن تتجاوز 53% وهي من أدني النسب في منطقة اليورو عداً استونيا ولكسمبرج.. كذلك فإن تكاليف الاقتراض بالنسبة لفنلندا مساوية لتكاليف الاقتراض بالنسبة لألمانيا.. وبالمقابل تعتبر فنلندا أسرع الدول تحركاً نحو الشيخوخة السكانية بعد كل من اليابان وإيطاليا في مجموعة الدول الغنية ولذلك فهي ترفض زيادة ما عليها من ديون.. وعندما ضربتها الأزمة المصرفية في التسعينيات المتحدث علي نفسها في علاج هذه الأزمة مع دعم محدود جداً من المجتمع العالمي ولذلك يكره الفنلنديون عمليات الدعم وتقديم الضمانات المالية للآخرين. وغني عن البيان أن فنلندا ليس لديها ما تخسره من تفكك منطقة اليورو فبنوكها عكس بنوك فرنساوألمانيا ليست متورطة كثيراً في ديون دول الأطراف المأزومة واقتصادها أقل اندماجا في اقتصاد منطقة اليورو بعكس دول الشمال الأخري مثل هولندا.. ولا توجه سوي 31% من صادراتها إلي أوروبا :أي أقل من نسبة الصادرات البريطانية إلي أوروبا.. وتقع خمسة من أكبر سبعة أسواق ترتبط بها فنلندا في مناطق غير أوروبية.. وتعد روسيا أكبر مورد لفنلندا والسويد أكبر زبون لها. ولكن جرس الإنذار الفنلندي لاتزال له خطوط حمراء لا يستطيع تجاوزها فالألمان قادرون علي جر فنلندا إلي المشاركة في صفقة تبادل الديون.. والرأي العام الفنلندي لايزال يناصر البقاء في منطقة اليورو حتي لا يقع مرة أخري في فلك الدب الروسي مثلما كان الحال في عصر الشيوعية.. ومع ذلك فإن استمرار أزمة منطقة اليورو دون حل من شأنه تشجيع التمرد داخل دول الشمال الأوروبي والحال كذلك أن يستمع الجميع إلي جرس الإنذار الفنلندي قبل أن يفوت الأوان.