في كتابه القيم "الإسلام وعلمانية الدولة" أفرد الدكتور عبدالله أحمد النعيم المولود في السودان عام 1946 واستاذ القانون بجامعة أموري بالولايات المتحدة فصلا كاملا عن التجربة التركية في انتهاجها للنموذج العلماني في حكم الدولة ولعل ما يدور حولنا ونحن بصدد قيام الجمهورية الثانية في التاريخ المصري وما يتنازع الحكم فيها بين تيارين متساويين في الندية ومتضادين في الرؤية أحدهما هو النظام المدني وهو ما ألفه الشعب علي مدار تاريخه الحديث والآخر نظام أصولي التوجه يعتمد المرجعية الدينية الإسلامية في أحكامه وإدارته لشئون البلاد وهو ما يترقبه المواطن المصري بمشاعر تختلف من شخص لآخر طبقا لميوله وميراث ثقافته وطبيعة تكوينه وبالتالي القدرة علي تقييمه لما يدور من حوله ولعل في ذلك كله ما يدعونا إلي تصفح هذا الفصل من الكتاب. النقطة المحورية في السرد التاريخي لتلك التجربة هي قيام الجمهورية الاتاتوركية في أغسطس 1922 حيث إنها قطعت تماما بين عصرين وبين أسلوبين في الحكم فإذا عدنا إلي الوراء الي ما قبل ميلاد جمهورية أتاتورك، سنجد أن الدولة العثمانية احتلت مكانها كدولة كبري في عام 1453 بعد استيلائها علي القسطنطينية من الامبراطورية البيزنطية ثم قامت بغزو كل من سوريا ومصر والجزء الغربي من الجزيرة العربية في عامي 1516 و1517 ويشير الكتاب إلي أن الإسلام لم يكن الدين الوحيد في الامبراطورية العثمانية بل كان المسلمون يشكلون أقلية في بعض المناطق وقد اعتمد نظام للحكم الذاتي لمختلف الطوائف الدينية والملل مع خضوعها لهيمنة الاختصاص القضائي للدولة العثمانية وحظيت الكنيسة الارثوذكسية الشرقية بأعلي درجات الاستقلال والمكانة في إطار نظام الملل. النظام القانوني وضع العثمانيون نظاما قانونيا يتكون من ثلاثة أقسام: الشريعة، القانون، الأنظمة القانونية الخاصة بطوائف الأقليات غير المسلمة ويذكر الكتاب أن قواعد الشريعة التي مارستها الدولة العثمانية تتبع في الأساس المذهب الحنفي للفقه الإسلامي إلا أنه كان يسمح للقضاة المحليين باتباع أي مذهب فقهي آخر وكانت المحاكم مؤسسات رسمية تعمل في إطار سلطة الحكومة المركزية في اسطنبول وهي التي كانت تعين القضاة وتدفع رواتبهم وتتأكد بشكل عام من تنفيذ أحكامهم أما القانون فقد كان تشريعا يسنه السلطان بوصفه الخليفة لتنظيم الأمور التي لا تتناولها الشريعة مثل فرض الضرائب أما فيما يخص القانون وإدارة العدالة وفقا لسلطات كل جماعة دينية غير مسلمة فكان أي فرد ينتمي لاحدي هذه الملل يولد ويتزوج ويدفن حسب القوانين الدينية والعرفية للطائفة الدينية التي ينتمي إليها وقد رأي البعض ان القانون بهذا الوضع يعتبر منفصلا عن الشريعة وعلمانيا وهو بذلك يصبح ابتكارا تركيا يقدم تفسيرا تاريخيا لتحول تركيا للعلمانية في القرن العشرين. الاضمحلال والتحول ويمضي الكتاب في سرده التاريخي لتلك الفترة فمع نهاية القرن السادس عشر وبداية السابع عشر تغيرت كثيرا الأسس الاقتصادية والثقافية للامبراطورية فقد حل النظام الاقتصادي والضرائبي النقدي محل النظام القديم للضرائب العينية كما كانت الهجرة المتزايدة للفلاحين من المناطق الزراعية ونبذهم لحياة الريف الي العيش في المدن من أهم التغيرات الاقتصادية والاجتماعية. وبدأت بنية الدولة العثمانية ومؤسساتها في التحول فقد تم نقل مكتب "الصدر الأعظم" خارج القصر وبدأ يتحمل مسئولية الشئون اليومية للبلاد بعيدا عن السيطرة المباشرة للسلطان مما كان يعني نهاية السلطة التقليدية المطلقة للأسرة الحاكمة ثم أخذ نظام الملل في القرن التاسع عشر في التحلل نتيجة لضغوط من قوي الغرب التي أصبح لها التفوق التكنولوجي والعسكري والاقتصادي علي الامبراطورية العثمانية المتداعية كما عقدت سلسلة من المعاهدات أطلق عليها اسم "الامتيازات الأجنبية" أعطت الدول الأوروبية حقوقا أكبر في التحكم في مجتمعات "الذميين" والتأثير عليها باسم حماية تلك المجتمعات.