السيد البابلي عندما جاء الدكتور محمد البرادعي إلي مصر، قلنا إن القيمة الحقيقية لتواجد البرادعي علي الساحة السياسية في مصر هي أنه سيكون محفزا علي الإسراع في التغيير والإصلاح وأن دوره سينحصر في إحداث نوع من الحراك السياسي بطرح أفكار وآراء جديدة وصريحة ومتحررة، ولكن الفرصة أمامه ضئيلة لكي يشكل وجوده فارقا كبيراً في المستقبل السياسي لمصر. وكتبنا نشيد بالبرادعي كشخصية مصرية عالمية بارزة وبالغة الاحترام من حقه أن يعود إلي بلده وأن يقابل فيها بالترحاب وأن يكون له دوره الوطني في الداخل بكل ما يملكه من رصيد من التجارب والخبرات والعلاقات الدولية. ولكننا انتقدنا طريقته في التعبير عن نفسه وعن آرائه وهذا حقنا في التعبير.. كنا نري أنها تميل إلي التنظير والخيال ولا تصلح ولا تنسجم مع الواقع السياسي في مصر داخليا، ولا مع حال الشارع ومتغيراته ومفاتيحه ومؤثراته. وأتي البرادعي بحملة إعلامية ضخمة فاقت حجم ما يمكن أن يقدمه أو يحدثه من تغيير. وكان ممكنا أن يأتي البرادعي ويذهب دون أن يشعر به أحد لولا هذه الحملة الإعلامية الضارية التي شنتها بعض الأقلام الصحفية ضده والتي حولته إلي شبه أسطورة والتي ظن أصحابها أنهم يهدمون بها البرادعي في غفلة عن تفهم وإدراك أنهم بهذه الحملة إنما يخلقون له التعاطف ويظهرون ضعفا أو ارتباكا في صفوف النظام تجاهه. ولذلك كان تحرك بعض العقلاء في صفوف النظام سريعا حين نأوا بأنفسهم سريعاً عن الهجوم علي البرادعي وابتعدوا عن هذه المعركة، بل وذهب البعض منهم إلي الترحيب به للتدليل علي الثقة في أنه لا يشكل خطراً من أي نوع. ولم ينجح البرادعي في استثمار الفرصة الذهبية التي أتاحها له الإعلام الرسمي عندما انقضوا عليه هجوماً، فبدلا من أن ينسجم مع نفسه ومع الواقع المصري، ويتحدث بنفس لغة المجتمع ومفرداته، فإنه استمر في عليائه يتحدث بلغة دبلوماسية رفيعة، وبتعبيرات ومفاهيم لم تقترب كثيراً من رجل الشارع العادي، وافتقد في كثير من الحوارات التليفزيونية التي أجريت معه جاذبية القائد الشعبي القادر علي اجتذاب الجماهير نحوه، وبدا أيضا مترددا ومتلعثما في الحديث بأفكار واضحة باللغة العربية، وكأنه أحد المستعربين الذين تحولوا فجأة للحديث بالعربية بدلا من الإنجليزية..! وكان غياب البرادعي عن مصر فترات طويلة في الخارج في مهام وزيارات تتعلق بعمله السابق، مؤشرا آخر علي أن للرجل ارتباطات ومصالح يري أنها أهم من وجوده بين مؤيديه وبين صفوف حركات المعارضة لتوحيد الصفوف وقيادة المعارك السياسية مثل الانتخابات التي ستجري لمجلس الشعب. وأصبحت زيارات البرادعي لمصر التي تتم بين الحين والحين أشبه بالزيارات السياحية أو التفقدية التي تفتقر إلي الالتحام الحقيقي بالمواطنين وبالتفاعل مع مشكلات وقضايا الشارع الحياتية والاجتماعية والاقتصادية، ولم يعد هناك اهتمام إعلامي كبير بهذه الزيارات لأنها أصبحت أيضاً تتم علي فترات متباعدة وفي غيبة من اهتمام مؤيديه الذين انفض بعضهم من حوله بعد أن انتقدوا علانية غيابه المتكرر وإدارته المعركة من الخارج. وقد اعتقد البرادعي أيضاً واهما أن التغيير في بلادنا يمكن أن يأتي عبر "الإنترنت" ومن النشطاء الذين يديرون مواقع إلكترونية نشطة، متخيلا أن هؤلاء لديهم القدرة علي إحداث التغيير في الشارع وقيادة الجماهير نحو الاعتصامات المدنية والضغط علي الحكومة، وكان هذا انعكاسا ومؤشرا علي أنه ابتعد كثيراً عن المجتمع إلي الحد الذي لم يستوعب فيه أن الإنترنت مازال هو لغة الأقلية ونوعاً من الترف الثقافي الذي لا يمكن أن يقود معركة التغيير..! ولهذا ظل البرادعي منعزلا عن الجماهير.. وظل البرادعي مجرد ذكري لمعركة انتهت قبل أن تبدأ لأن القائد لم يقف في مقدمة الجنود.. وإنما فضل أن يقود معركته بالريموت كنترول.. وقد نفدت "بطاريات" هذا الريموت..!! [email protected]