عندما يحمل المجلد الخامس من تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2009 عنوان "تحديات أمن الإنسان في البلدان العربية" فإن أول سؤال يتبادر إلي الذهن هو: ما المقصود ب "أمن الإنسان"؟ إجابة التقرير في فصله الأول هي أنه يعني "تحرر الإنسان من التهديدات الشديدة والمنتشرة والممتدة زمنياً وواسعة النطاق التي تتعرض لها حياته وحريته". وبتفصيل أكثر يقول التقرير: "إن انعدام أمن الإنسان ينجم عن تهديدات جسيمة، أو متواترة، أو شديدة الوطأة تولد آثاراً متتالية مركبة تمس جمهرة من الناس". وبتطبيق ذلك علي الإنسان العربي نجد أن انعدام أمن الإنسان يقوض التنمية البشرية دون هوادة، وهو من نتائج استنزاف الموارد الطبيعية تحت وطأة الضغوط المفروضة عليها، والمعدلات العالية لنمو السكان، والتغير المناخي السريع، وهي أمور قد تهدد سبل العيش والدخل والغذاء والمأوي للملايين في البلدان العربية. ولا ينظر التقرير إلي تلك الضغوط باعتبارها أمراً "عارضاً"، وإنما بوصفها أمراً "متأصلاً" في المحنة التي يعيشها خمس الناس في بعض هذه البلدان، وأكثر من النصف في بعضها الآخر حيث صارت حياتهم فريسة للفقر والموت المبكر نتيجة الجوع والحاجة. وهذه الضغوط ليست محلية فقط، وكأن المنطقة العربية لا يكفيها ما فيها من مشاكل، بل يضاف إليها بل يقف في مقدمتها الآثار الكارثية للاحتلال العسكري والنزاعات المسلحة التي تستهدف الأرض الفلسطينية المحتلة والعراق والسودان والصومال. حتي البلدان التي تتمتع باستقرار نسبي يطل فيها انعدام أمن الإنسان برأسه، حيث تتمتع السلطات الأمنية فيها بمقدرة واسعة علي الانتقاص من حقوق المواطنين أو انتهاكها.. ويتفاقم الوضع عند مقارنة حياة المواطنين العرب الذين يعانون من "القلة" بحياة جيرانهم الذين يعانون من "التخمة" سواء داخل بلدانهم أو في البلدان المجاورة. باختصار يرسم التقرير صورة مفزعة للحياة العربية حيث "يعيش قطاع عريض من العرب في حالة مستديمة من الفزع جراء الأذي الذي قد يلحقه بهم بعض مواطنيهم أو القوي الأجنبية علي حد سواء، وجراء الصراعات الداخلية والقوانين المجحفة، وهو ما يجعلهم في وضع يبدد الآمال ويكبح روح المبادرة ويخلي المجال العام من إمكان التغيير السلمي والتوافقي". ومن هنا يبدو للمسئولين عن هذه السلسلة من التقارير المهمة أن ليس ثمة موضوع أدعي للاهتمام من أمن الإنسان منطلقا لتقاريرهم التي تسعي إلي إعادة تقويم حالة التنمية الإنسانية العربية خلال العقد الأول من هذه الألفية الجديدة، والتي توجد مؤشرات متعددة علي أنها أصبحت أسوأ مما كانت عليه منذ سبع سنوات مضت. ومسوغات ذلك أن مفهوم أمن الإنسان علي هذا النحو يحول الاهتمام من القضايا المتصلة بأمن الدولة التي غالبا ما تمت المبالغة في التشديد عليها في الخطاب السياسي في المنطقة والسعي وراءها علي حساب أمن المواطنين أحيانا إلي الاهتمام بأمن الإنسان، الذي لولاه لا قيمة لأمن الدولة. وهذا تحول مهم لأن إدراك هذا المفهوم علي هذا النحو يؤدي إلي اعتبار أمن الإنسان شرطاً لتحقيق أمن الدولة "فالمواطنون الذين يتحررون من الخوف والحاجة هم أكثر قابلية للإقرار بالشرعية السياسية والاقتصادية والاجتماعية لدولة مسئولة متجاوبة تتولي حماية مصالحهم.. كما أن هؤلاء سيندفعون للعمل سوياً للتصدي لأية أخطار قد يواجهونها، وسيكونون أكثر مناعة تجاه الإغراء بالتحالف مع قوي أجنبية ضد مصالح الدولة". وبناء علي ذلك يصبح مفهوم "أمن الإنسان" هو الركيزة الأساسية للتنمية البشرية، حيث أمن الإنسان مستلزم أساسي لتحقيق التنمية البشرية بما أن منظومة الخيارات المتاحة للناس لا يمكن أن تتسع إلا إذا كانوا في وضع يضمن بقاءهم علي قيد الحياة وتمتعهم بالحرية. ومن ناحية أخري فإن الارتقاء بمستوي الناس التعليمي وأوضاعهم الصحية وزيادة دخولهم وضمان حرياتهم الأساسية سيعزز تنميتهم الإنسانية، التي تفضي، بالنتيجة، إلي المزيد من أمن الإنسان. وقد قام بعض المفكرين بتوسيع مفهوم أمن الإنسان ليشمل جوانب حقوق الإنسان كافة.. بيد أن أمن الإنسان ليس مرادفاً مطابقاً لمفهوم حقوق الإنسان.. بل إن الأصح كما يقول التقرير اعتباره "المحصلة لسلسلة من الشروط، منها احترام حقوق الإنسان كافة، سواء المدنية منها أم السياسية أم الاقتصادية أم الاجتماعية أم الثقافية أم الفردية أم الجماعية.. وعندما تحظي هذه الحقوق بالاحترام تتحقق درجة أخري من أمن الإنسان.. غير أن ذلك قد لا يكون كافيا بحد ذاته، لأن احترام هذه الحقوق لا يحمي الناس علي سبيل المثال من تقلبات المناخ، أو الكوارث الطبيعية التي قد تحرم آثارها ملايين الناس من المأوي والعمل. ورغم منطقية مفهوم "أمن الإنسان" فإن التقرير لم يفته التنويه وإن يكن بصورة سريعة وموجزة إلي أنه مفهوم لا يخلو من الالتباس "وبخاصة لأنه يرتبط باعتبارات تتصل بتعزيز أمن الدولة، مما قد يخضعه لتأويلات يكتنف الشك أهدافها وغاياتها.. وقد يستخدم المفهوم بل إنه استخدم بالفعل وسيلة يتسلل عبرها التدخل الأجنبي، بما فيه التدخل العسكري في شئون الدول الأخري ذات السيادة.. كما هي حالة العراق، وإلي حد ما حالة الصومال.. لقد وفر ما سمي بالحرب علي الإرهاب تبريرات زائفة أحيانا لمثل هذا التدخل".. أي أن هذا المفهوم يمكن أن يُختطف ويُساء استخدامه لخدمة مصالح استعمارية.. لكن ينبغي ألا يحكم علي مفهوم بما يتراءي منه بعد إساءة استخدامه، بل بالمساهمة الإيجابية التي يقدمها لخدمة المصلحة العامة والخاصة.. وأمن الإنسان يوفر إطارا متيناً للتعامل مع التهديدات التي تواجه التنمية البشرية، وذلك عن طريق الإعلاء من شأن التحرر من الخوف والتحرر من الحاجة. .. وللحديث بقية،،،