ليس مفاجئا أن يختلف المصريون والعرب والمسلمون والأقباط - بل والأمريكيون أيضا - في تقييم خطاب الرئيس باراك أوباما الذي وجهه إلي العالم الإسلامي من تحت قبة جامعة القاهرة، حتي وان اتفقوا جميعا علي "كاريزما" الرجل التي مست شغاف القلوب. وفي سياق هذا التباين الكبير في تقييم خطاب أوباما - الذي ألقاه عشية الذكري الثانية والأربعين لاندلاع حرب الساعات الست في 5 يونيه المشئوم - فإن اجتهادنا المتواضع هو أننا إزاء خطاب استثنائي يمثل - كما قلنا في مقالنا السابق - قطيعة مع خطاب الغطرسة والاستعلاء الذي سيطر علي السياسة الأمريكية خصوصا، والغربية عموما، خلال السنوات الثماني الماضية. وأن تراجع هذا الخطاب المتغطرس ليس مجرد توجه "شخصي" للرئيس الأمريكي "الجديد" باراك حسين أوباما، وإنما هو توجه عام فرضته تحولات موضوعية في موازين القوي الدولية وتغيرات بنيوية في النظام العالمي، وأهم هذه التحولات وتلك التغيرات هي نهاية عصر انفراد الولاياتالمتحدة بالهيمنة علي النظام العالمي، وبروز أقطاب جديدة إلي جانب الاتحاد الأوروبي، وبخاصة الصين والهند وروسيا والبرازيل. كما أن المغامرات العسكرية التي قام بها صقور "المحافظين الجدد" الذين نجحوا في اختطاف مراكز صنع القرار في واشنطن طيلة السنوات الثماني الماضية، قد فشلت فشلا ذريعا، وكبدت الولاياتالمتحدة خسائر مادية ومعنوية فادحة في الخارج. فضلا عن أن المغامرات الاقتصادية لهؤلاء "المحافظين الجدد" الذين طبقوا في الداخل أكثر طبقات الرأسمالية توحشا أدت إلي دخول الاقتصاد الأمريكي أزمة خانقة لم تشهد الولاياتالمتحدة مثيلا لها منذ الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن الماضي، سرعان ما قادت الاقتصاد العالمي بأسره إلي نفق مظلم. إذن.. هناك أسباب "موضوعية" أدت إلي نهاية "عصر العجرفة" الأمريكية، أو علي الأقل إلي بداية نهاية هذا العصر الأمريكي. وليس سعي أوباما إلي "بداية جديدة" مع العالم الإسلامي سوي أحد شواهد هذا التحول الكبير "الإجباري"، بل ان نجاح شخص بمسوغات ومؤهلات وتاريخ باراك أوباما نفسه في الوصول إلي رئاسة الولاياتالمتحدة - بكل تفاصيل خلفيته العرقية والاجتماعية - هو في حد ذاته شاهد من شواهد هذا التحول الدراماتيكي. وهذه البداية الجديدة مع العالم الإسلامي بالنسبة لدولة كبري مثل الولاياتالمتحدة، لا يمكن أن تأتي منفصلة عن "خطاب كوني جديد" يستفيد من أخطاء الماضي ويتعامل مع مستجدات الحاضر وتحديات المستقبل، وكل هذا لا يمكن أن يخضع للمزاج الشخصي أو الاهواء الفردية في بلد مؤسسات "بحق وحقيق"، تتمثل إحدي نقاط قوته في مرونة نظامه السياسي وقدرة هذا النظام علي التكيف السريع و"البراجماتي" مع التطورات التي تحدث لا محالة مع تحرك عجلة الزمن التي لا يمكن إيقافها أو اعادتها إلي الوراء، وآخر الأمثلة علي ذلك استبدال جورج بوش الصغير وإدارته الأيديولوجية المتعصبة بإدارة مختلفة علي رأسها شخص بمواصفات أوباما الذي بهر العالم واستطاع بين عشية وضحاها أن يحول مشاعر كراهية أمريكا التي اجتاحت العالم إلي مشاعر إعجاب بالنموذج الأمريكي والحلم الأمريكي. وهذه البداية الجديدة التي عبر عنها خطاب القاهرة مجرد جزء من "التغيير" الذي كان شعار الحملة الانتخابية للرئيس الأمريكي الأسود، وبالطبع فإنه تغيير لا ينقل الولاياتالمتحدة من اليمين إلي اليسار، أو يحولها من دولة إمبريالية إلي دولة ديموقراطية مسألة بين عشية وضحاها.. وأنما هو "بداية تغيير" لترشيد السياسات الامبراطورية الأمريكية في الداخل والخارج، فهو لا يعادي الرأسمالية كنظام اجتماعي واقتصادي وأنما يحافظ علي جوهرها بالتخلص من الأعشاب السامة للنيو ليبرالية التي انتصرت لما يسمي بالرأسمالية المتوحشة وقدست الحرية المطلقة والعمياء لقوي السوق دون رقيب أو حسيب وتنكرت لأسس ومرتكزات العقد الاجتماعي لدولة الرفاه بما تتطلبه من ضرورة الحفاظ علي حد أدني من السلام الاجتماعي والحريات المدنية والنقابية، وكان من جراء ذلك اتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء بصورة مخيفة وتزعزع السلم الأهلي وتصارع حريات كانت من قبيل المسلمات في الحياة الأمريكية من قبل. وهذا معناه أن التغيير الذي يريده أوباما - والنصف الأكثر عقلا من الأمريكيين الذين انتخبوه - هو ترشيد الرأسمالية الأمريكية وليس الانقلاب عليها، بمعني أنه تغيير داخل الرأسمالية وليس خارج نطاقها وفلسفتها وآلياتها. وهذا التغيير "الداخلي" يستلزم بدوره تغيرات "خارجية" بعد أن أدت سياسات صقور المحافظين الجدد إلي الأضرار بالمصالح الأمريكية في الحقبة السابقة.