في الجامعة الأمريكية بالقاهرة مركز بحثي بالغ الأهمية يسمي "مركز توثيق النشاط الاقتصادي" الذي يديره الدكتور عبدالعزيز عز العرب وهو باحث مرموق وله كتابات اقتصادية متميزة. وهذا المركز يقوم بمهمة خطيرة، لم يخطر علي بال أي جامعة من جامعاتنا "المصرية" الاضطلاع بها، ألا وهي توثيق النشاط الاقتصادي، وفي سبيل ذلك يستضيف كل من له علاقة ب"البيزنس" ويسجل تجربته و"شهادته" وإلي جانب هذه الشهادة الصوتية يحاول المركز جمع أكبر كمية ممكنة من المستندات والأوراق المكتوبة، وينظم مؤتمرا سنويا لمناقشة قضية محورية يدعو إليها أيضا الشخصيات ذات الصلة. وفي الفترة من 9 إلي 11 مايو الجاري عقد المؤتمر السنوي السادس لتوثيق النشاط الاقتصادي بمصر والشرق الأوسط.. وتضمن برنامج المؤتمر لقاء مع الدكتور عبدالعزيز حجازي وزير الخزانة والاقتصاد ورئيس مجلس الوزراء في الفترة من 1968 إلي ،1975 ولقاء مع اسماعيل حسن محافظ البنك المركزي المصري في الفترة من 1993 إلي ،2001 ومحاضرة للدكتور روجير أوين أستاذ التاريخ ودراسات الشرق الأوسط بجامعة هارفارد والدكتور روبرت تيجنور أستاذ التاريخ بجامعة برينستون بعنوان: "التاريخ العالمي والتاريخ المحلي: مصر في الزمان والمكان" وعرضا لأبحاث الباحثين في مركز التوثيق الاقتصادي وهي كلها نشاطات مهمة لكن أهم حدث كان هو المائدة المستديرة التي نظمها المركز عن سياسات وممارسات الخصخصة وكانت هذه المائدة المستديرة حدثا استثنائيا ليس فقط لخطورة موضوعها وإنما أيضا لطبيعة الشخصيات التي جرت دعوتها للمشاركة في الحوار حول هذا الموضوع وضمت كوكبة من الوزراء ورؤساء الشركات والقيادات الرسمية السابقة فضلا عن شخصيات مرموقة من الحقل الأكاديمي والاعلام.. كان لي شرف الحضور معهم. أما لماذا هذا الموضوع بالذات؟ فجاءت الاجابة عليه من الورقة الافتتاحية التي أعدها المركز والتي أوضحت أن "سياسات الخصخصة التي اتبعتها الدولة في العقود الثلاثة الماضية قد اثارت جدلا واسعا شمل الأوساط السياسية والاقتصادية والأكاديمية. وفي هذا السياق ومن أجل التوصل إلي فهم أعمق للتحولات الهيكلية وتأثير الخصخصة علي القطاع الاقتصادي والاقتصاد الكلي، يؤمن مركز توثيق النشاط الاقتصادي بضرورة دراسة نماذج لبعض الشركات بعينها، وما طرأ عليها نتيجة ادراجها في برنامج الخصخصة وتأتي أهمية هذه الجلسة في عرض ومناقشة تفاصيل وأحداث عملية الخصخصة من خلال تجارب وملاحظات الذين شهدوا تاريخها من واقع خبراتهم في الحقل السياسي والاقتصادي". ورغم أن مجرد حديث هؤلاء الذين شهدوا "ميلاد" الخصخصة يعتبر حدثا مثيرا في حد ذاته، لكني لم أتصور أن هذه الشهادات ستكون بمثل هذه الاثارة التي فاقت كل التوقعات. الدكتور عادل جزارين الرئيس الاسبق لشركة النصر للسيارات ولاتحاد الصناعات بدأ الحوار حول المائدة المستديرة بالتأكيد علي أنه "لم تكن هناك استراتيجية واضحة" للخصخصة في مصر بل وأن مفهومها "مايزال غير واضح" حتي الآن، وأنه قد وقعت أخطاء عديدة في عملية الخصخصة. عبدالهادي قنديل وزير البترول والثروة المعدنية ورئيس الهيئة المصرية العامة للبترول الأسبق تحدث عن الخصخصة في قطاع البترول، مشيرا إلي أن ثلاثة أرباع الشركات العاملة في هذا القطاع تنتمي أصلا إلي القطاع الخاص، وأن فكرة الخصخصة، عندما بدأ الترويج لها، كان المفهوم منها التخلص من شركات القطاع العام الناجحة أولا، مضيفا "اعترضنا علي هذا المفهوم منذ البداية، فطالما أن هناك شركة ناجحة فلماذا نهدمها؟! وبعد عام 1973 فتحنا الباب أوسع وأوسع للقطاع الخاص وقلنا: من يريد أن ينشئ شركة فليتقدم. فأنا لا أطعن في القطاع الخاص لكنني منحاز للقطاع العام إذا كانت إدارته ناجحة، والدولة لابد أن يكون لها كلمة في ضبط السوق والدفاع عن احتياجات لناس، لكننا للأسف الشديد فقدنا دور الدولة، وفقدنا قدرتها علي التدخل لأنها فقدت الآليات التي تمكنها من ذلك. وأضاف عبد الهادي قنديل قائلا: "أنا شخصيا رفضت بيع أية شركة من الشركات القائمة، وإذا كان هناك اتجاه لتشجيع الخصخصة فإن السوق موجود أمام القطاع الخاص فلينشئ ما شاء من شركات جديدة، لكن التطبيق العملي يقول لنا قصة أخري: فأول شيء يفعلونه هو أن يأخذوا العمالة التي دربناها، كما سمعنا عن فضائح كثيرة منها أن يباع مصنع بمائة مليون جنيه ويقوم من اشتراه بهذا المبلغ الزهيد ببيعه بألف مليون بعد بضعة شهور! المهندس محمد عبد الوهاب وزير الصناعة الأسبق ألقي بعدد من القنابل شديدة الانفجار. أولا: أن الحكومة لم تصلح الشركات الخاسرة ليس لأنها فقيرة وإنما لا تريد أن تصلح، ولو أنها كانت تريد الإصلاح لفعلت، لكن الايديولوجيات - وليس الخبرة أو الامكانيات - كانت هي المحرك للحكومة.