إعادة الاعتبار إلي "طلعت حرب"، في هذا المنعطف التاريخي الذي تمر به مصر الآن، مسألة لها مغزاها ودلالاتها المهمة. والي جانب الكتب والدراسات التي رأت النور مؤخراً بفضل رعاية محمد بركات رئيس مجلس إدارة بنك مصر، وزملائه، لها.. والتي أسهمت في تثقيف الأجيال الجديدة وتعريفهم بسيرة هذا الرائد العظيم الذي لم يعد يعرف معظمهم شيئا عنه سوي أنه "صاحب" الشارع الذي يحمل اسمه في قلب القاهرة.. إلي جانب هذا الجهد المشكور، لبنك مصر، والذي يمثل لفتة وفاء لمؤسسه وصاحب الفضل الأول في إنشائه، ظهرت محاولات أخري لإلقاء الضوء علي جوانب مختلفة من التجربة الفريدة لطلعت حرب. من أهمها مبادرة الناشر المحترم عادل المعلم، الذي التقط بحسه المرهف رسالة لنيل الدكتوراة من جامعة برينستون عن طلعت حرب بمكتبة الدكتور مصطفي الرفاعي، وزير الصناعة السابق، وأحد اكبر العقول الوطنية المصرية التي كرست حياتها للدفاع عن الصناعة الوطنية وتصنيع مصر. طلب الناشر المثقف من الدكتور مصطفي الرفاعي استعارة الرسالة لقراءتها، وسرعان ما توسم فيها عملا مهما يستحق النشر، فطلب من الأستاذ هشام سليمان عبد الغفار ترجمتها. وبعد انتهاء الترجمة دفع بها إلي الدكتور إبراهيم فوزي، الأستاذ بكلية الهندسة جامعة القاهرة ووزير الصناعة ورئيس هيئة الاستثمار الأسبق، طالباً منه مراجعتها وتقديمها. وكانت النتيجة -كما يقول عادل المعلم- عملا أكاديميا، قام به باحث أمريكي لنيل رسالة الدكتوراة من جامعة أمريكية، واهتم به وزيران حملا هموم الصناعة المصرية، يلقي الضوء علي طلعت حرب، وكفاحه لبناء وتحرير الاقتصاد المصري، والذي حصل علي لقب "باشا" بعد أن قضي الملك فؤاد ساعتين كاملتين سيراً علي قدميه في افتتاح شركة مصر لغزل القطن ونسجه بالمحلة الكبري، في 23 مارس 1931، وعند نهاية الزيارة قال الملك له: "مبروك يا باشا". هذه الدراسة، التي ظهرت في كتاب عن "مكتبة الشروق الدولية" بعنوان "طلعت حرب وتحدي الاستعمار- دور بنك مصر في التصنيع 1920-1941"، هي دراسة فريدة بالفعل. فهي فريدة في منهجها أولاً. وهو ما عبر عنه المترجم في مقدمته بقوله إن المؤلف حاول استعراض دور طلعت حرب الريادي في تأسيس قلعة مجموعة مصر الاستثمارية وبنك مصر في القلب منها. إلا أنه عمد إلي التأكيد علي أن هذا الدور إنما جاء كجزء من منظومة متكاملة تم تفعيلها في ظرف موات، واستمرت حتي بعد أن رحل عنها مؤسسوها الأوائل. وبهذا المعني يمكن فهم قول المؤلف إنه لا يمكن إغفال" وجود عدد من القوي الاجتماعية الأكبر التي كانت في خلفية ظهور البنك والتي يتم إغفالها عادة في الحديث عن البنك. فعلي الرغم من ان طلعت حرب طور وصفة فكرية ملائمة لتقديم بنك مصر للمصريين، فإن دراسة عن شخصيته وتاريخه السياسي فقط لن تسلط الضوء إلا علي قسط بسيط من جهود التصنيع المصري خلال فترة ما بين الحربين. فدراسات النخبة تقدم قدرا وافرا من البيانات حول المواقف والسلوك السياسي والخلفيات الاجتماعية لضباط الجيش وأعضاء البرلمان والأحزاب السياسية والوزراء. غير أن المنظور الضيق واللاتاريخي لهذا النوع من دراسة السياسة والتغير الاجتماعي يحول دون سبر أغوار الدور الذي تقوم به المؤسسات المالية من قبيل بنك مصر، والتي تتحول - بشكل أو بآخر- لفاعل سياسي". ولذلك فان هذه الدراسة الفريدة لا تحاول فقط إلقاء مزيد من الأضواء علي شخصية، وسيرة، طلعت حرب، وإنما هي تطرح، قبل ذلك وبعده، أربعة أسئلة عريضة ، منها سؤالان تاريخيان في موضوعهما، والسؤالان الآخران يتعلقان بالجانب النظري من المسألة. السؤال الأول: ما هي القوي الاجتماعية التي وقفت وراء إنشاء بنك مصر؟ ولماذا تم تأسيسه في ذلك التوقيت بالذات؟ والسؤال الثاني: لماذا شهد البنك فترة من الانتعاش الاقتصادي، تلتها فترة واجه فيها خطر الانهيار المالي؟ والسؤال الثالث: ما هي الملامح التي يمكن استنباطها من الإجابة عن السؤالين الأولين للمساهمة في الجدل الدائر حول ما إذا كان التصنيع ممكنا في الدول غير الغربية؟ وما إذا كان من الممكن أن يحدث التصنيع تغييرا في مستويات المعيشة في هذه الدول؟ والي أي مدي يمكن لعملية تصنيع ممولة ومدارة من الداخل أن تنجح إذا كان هدفها أن تظل مستقلة ومناوئة لهيمنة رأس المال الأجنبي؟ علاوة علي ذلك.. ألا يوجد بديل أمام الجماعات التي تحاول تحفيز التصنيع في الدول الأقل نمواً سوي الاستسلام في النهاية أمام رأس المال الأجنبي؟ والسؤال الرابع والأخير يثير إشكالية ما اصطلح علي تسميته بالبورجوازية الوطنية في عمليات التصنيع في دول العالم الثالث. فكيف تنشأ هذه الطبقة؟ وما هي مكوناتها الاجتماعية؟ وما هي العوامل التي تؤثر علي تماسكها السياسي؟ وما الأثر الذي يجلبه وجود أو -غياب - هذا التماسك علي عملية التصنيع؟