"الفلوس" هي لغة التعامل الرئيسية مع البنوك، لكن وصلتني من بنك مصر مؤخرا هدية أثمن من الفلوس وأغلي من البنكنوت. الهدية الثمينة هي خمسة كتب كبيرة القيمة وعظيمة الأهمية، بعضها من تأليف طلعت حرب وبعضها الآخر يتناول سيرته وإنجازاته. وقبل تقليب صفحات هذه الكتب يجب أولا توجيه التحية إلي محمد كمال الدين بركات رئيس مجلس إدارة بنك مصر، وزملائه الذين كانوا الجنود المجهولين الذين جعلوا هذه الكتب تري النور، وأن يأتي ذلك في إطار مبادرة محترمة بمناسبة احتفال البنك عام 2007 بمرور 87 عاما علي قيامه في 7 مايو 1920. الكتاب الأول "علاج مصر الاقتصادي ومشروع بنك المصريين أو بنك الأمة" كتبه محمد طلعت حرب عام ،1913 ويعتبر وثيقة بالغة الأهمية، حجبت طويلا بعد أن نفدت طبعتها، وهو الكتاب - كما يقول بنك مصر في تصدير طبعته الجديدة - "كان له أكبر الأثر في التاريخ الاقتصادي" سواء بالأفكار التي يحملها، أو الكلمات التي يتضمنها، فكانت هذه الكلمات بداية مشروع كبير يكسر حلقة السيطرة الأجنبية علي الاقتصاد المصري، وينادي بإقامة بنك وطني برأس مال مصري وبأيد مصرية.. ومن خلال عمل أهلي، وإذا كانت هذه الكلمات والأفكار عادية اليوم، فقد كانت يومها فتحا جديدا. والجملة الأخيرة ليست فوق مستوي الجدال لأن هذه الكلمات وتلك الأفكار ليست "عادية" اليوم، بل إن هناك من يشكك فيها ويطالب ببيع بنوكنا الوطنية لمن يشتري.. ويا حبذا لو كان هذا المشتري أجنبيا!!. علي أي حال.. فإن إعادة نشر كتاب طلعت حرب عمل مهم جدا، ويزيد من أهميته أن الناشر "دار الكتب والوثائق القومية - مركز تاريخ مصر المعاصر" عهد إلي الدكتور رءوف عباس حامد "قبل رحيله عنا" بالتقديم لكتاب طلعت حرب بدراسة رصينة وضع فيها وثيقة طلعت حرب في سياقها التاريخي، ويبين كيف وئدت فكرة "البنك الوطني" التي ترددت أصداؤها خلال الثورة العرابية كأداة للإفلات من التبعية الاقتصادية لأوروبا، ونواة لتحقيق الاستقلال الوطني، غير أنها عادت إلي الظهور من جديد خلال الأزمة الاقتصادية التي تعرضت لها البلاد عام ،1907 فتعالت الأصوات بالمناداة بتأسيس بنك وطني لإنقاذ البلاد من سيطرة رأس المال الأجنبي، دون أن يتضمن ذلك قصورا لمشروع البنك المقترح، علي نحو ما حدث أثناء الثورة العرابية، وظلت الفكرة تتردد علي صفحات الجرائد من حين لآخر حتي تبلورت في النهاية في تقرير اللجنة التحضيرية للموتمر المصري المنعقد في 29 أبريل 1911 الذي ذهب إلي أن إصلاح الحالة الاقتصادية يقتضي التخلص من سيطرة البيوت المالية الأجنبية علي السوق وتحكمها في المصريين، وأن ذلك لا يتحقق إلا بتأسيس "بنك مصري" يقوم علي رءوس أموال مصرية خالصة، وكان قرار إنشاء البنك في مقدمة القرارات الاقتصادية التي صدرت عن المؤتمر، وتقرر إيفاد طلعت حرب إلي أوروبا لدراسة نظم البنوك بها، ووضع مشروع للبنك المصري علي أساس علمي يتفق مع الظروف الاقتصادية للبلاد، ولكن نشوب الحرب العالمية الأولي وإعلان الحماية علي مصر عرقل إمكانية تحقيق المشروع الذي لم يقدر له أن يري النور إلا في عام 1920. ويربط المؤرخ المحترم رءوف عباس بين صعود وهبوط الدعوة لإنشاء البنك الوطني وبين تقلبات التاريخ الاقتصادي والاجتماعي، ويشير بشكل خاص إلي أنه لم تظهر في مصر - في تلك الحقبة - بنود متخصصة للإقراض الصناعي أو الزراعي أو بنوك إقليمية، كما لم تظهر بنود الاستثمار والأعمال، ولا البيوت المالية المتخصصة في خصم الأوراق التجارية وإصدار الأوراق المالية وضمان الإصدار، فمثل هذه المؤسسات لا تظهر رلا في البلاد التي يتمتع اقتصادها الوطني بقدر من الحرية، ولم يكن الاقتصاد المصري - وقتها - إلا اقتصادا تابعا، حددت القوي الإمبريالية دوره في إنتاج المواد الخام اللازمة للصناعة، ومن ثم تأخر ذلك التطور في مصر إلي ما بعد الحرب العالمية الثانية. ولا يعني ذلك أن الساحة في مجال العمل المصرفي خلت من المصريين، بل إن الدكتور رءوف عباس يرصد مجازفة بعض المصريين - في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين - بالعمل في ميدان العمل المصرفي، منهم منصور باشا يوسف، والديب، وحفني بالإسكندرية، وبشري وسينوت حنا، وعائلة ويصا بأسيوط، وكانوا يقبلون الودائع ويقرضون العملاء، ويحولون الأموال قبل قيام البنوك المساهمة الأجنبية الكبري، غير أنها عجزت عن منافسة تلك البنوك، وما لبثت أن اختفت من الساحة، وفضل أصحابها الاشتغال بالتجارة. وهكذا كانت البنوك المساهمة الأجنبية العاملة في مصر وكذلك فروع البنوك الخارجية، تستأثر بالجانب الأكبر من الأعمال المصرفية في البلاد، ولم تكن تنشر ميزانيات مستقلة عن أعمالها في مصر، كما كانت لغتها السائدة هي الفرنسية والانجليزية، وكانت رءوس أموالها وودائعها وحساباتها تقوم بالعملات الأجنبية. وقد نتج عن الحرب العالمية الأولي رواج نقدي لم تشهده البلاد من قبل بسبب الانفاق الحربي وارتفاع أسعار القطن، وزادت ثروة كبار الملاك والتجار وأرباب الأعمال.. ونتج عن ازدياد عدد تلك الفئة بالإضافة إلي النمو المطرد للمدن، زيادة الطلب علي الخدمات المصرفية من جانب أثرياء المصريين. غير أن الحالة الاقتصادية خلال الحرب نبهت الأذهان إلي ضرورة النظر في مستقبل الاقتصاد المصري بعد الحرب، فتكونت "لجنة التجارة والصناعة" عام 1917 لدراسة هذه المشكلة، وانتهت إلي وضع تقرير مهم أوصت فيه بتعديل نظام الجمارك، وإنشاء مدارس صناعية، وتخفيف الضرائب علي الصناعات المحلية، وخفض أسعار النقل بالسكك الحديدية، ومنح حق الأفضلية للمصنوعات المصرية في المناقصات الحكومية، وتقديم إعانات لبعض المشروعات الصناعية المهمة أو المشروعات الخاصة باستخراج المعادن مما يكون ذا منفعة عامة أو يؤدي إلي تنمية موارد البلاد وأوصت اللجنة بإنشاء"مصرف وطني" خاص لتقديم التسهيلات الائتمانية للمشروعات الصناعية. وهكذا والكلام للمؤرخ الكبير رءوف عباس ينتهي المطاف دائما بإدراك أهمية إقامة "بنك وطني" كحجر الزاوية في بناء الاقتصاد الوطني. حدث هذا أيام الثورة العرابية،كما حدث خلال أزمة ،1907 وتبناه "المؤتمر المصري" عام ،1911كما تبنته "لجنة الصناعة والتجارة" عام 1917. ولم يكن طلعت حرب بعيدا عن هذه الرؤية، فقد كان من بين من كتبوا في الصحف عام 1907 مطالبا بإقامة "بنك مصري وطني" وكان الكتاب الذي بين أيدينا "علاج مصر الاقتصادي ومشروع بنك المصريين أو بنك الأمة" الذي نشر عام 1913 محاولة للتأصيل العلمي لأهمية المشروع بالنسبة للاقتصاد الوطني، كما كان عضوا في "لجنة الصناعة والتجارة" التي جعلت تأسيس بنك وطني يخدم التنمية الصناعية من بين توصياتها. إذن هذا ليس مجرد كتاب.. وإنما نحن بصدد وثيقة تأسيسية لمشروع كبير هو مشروع "نهضة مصر".. ليس البنك المصري سوي أحد مرتكزاته. وللحديث بقية