صادق وزراء الإعلام العرب في القاهرة قبل أيام علي وثيقة بعنوان "تنظيم البث الفضائي الإذاعي والتليفزيوني في الدول العربية"، وهي وثيقة تشكل محاولة للتجديف ضد زمن الحرية والانفتاح الإعلامي "السياسي منه علي وجه التحديد"، وبالطبع في سياق الحيلولة دون انتقاد الأوضاع السائدة في العالم العربي. لم يتحفظ علي الوثيقة من الدول العربية سوي قطر ولبنان، ربما لأن قطر هي صاحبة فضائية الجزيرة المستهدفة بفروعها المختلفة أكثر من سواها، إن لم تكن المستهدف الأول بالوثيقة، إلي جانب لبنان التي تعد الدولة الأكثر انفتاحاً في الجانب السياسي، وربما غير السياسي علي نحو أوضح!! كان طبيعياً أن يجري تمرير الوثيقة بطريقة لا تفضح المطلوب علي نحو صريح، إذ جري تزيينها بالكثير من العبارات التي يدرك المعنيون أنها ليست مقصودة لذاتها، مثل الحديث عن منع التحريض علي فساد الأخلاق وعما يسيء إلي الذات الإلهية والرموز والمذاهب الدينية والرسل والرموزالوطنية. والحال أن أياً من الدول التي وقعت علي الوثيقة لن تبادر إلي محاربة سيل الفضائيات التي تعبث بالمنظومة الأخلاقية لمجتمعاتنا، مثل فضائيات الرقص والتعري، وفضائيات الدجل والشعوذة، إلي جانب قنوات "القمار الفضائي" التي تأكل أموال الناس بالباطل عبر مسابقات تافهة تستخدم تجارة الاتصالات. كل هذه ستبقي تعربد في فضائنا، بل تفرخ من دون توقف، وحدها الفضائيات التي تتحدث عن الفساد السياسي والاقتصادي والاجتماعي وتتجرأ علي انتقاد الأنظمة وممارساتها هي التي ستتعرض للعقوبات التي تحدثت عنها الوثيقة من حرمان من البث وإغلاق للمكاتب ووقف التراخيص، إلي غير ذلك من الإجراءات المعروفة في سياق محاربة الإعلام الحر. الأكيد أن بعض الأنظمة قد استشعرت خطر بعض الفضائيات علي أوضاعها الداخلية البائسة علي مختلف الأصعدة، فأرادت من خلال هذه الوثيقة "القانون" أن تعيد عقارب الزمن إلي الوراء يوم كان الخوض في شئونها من المحرمات، اللهم إلا من خلال مطبوعات، أكثرها محدودة الإمكانات تصدر وتوزع في الغرب، أو من خلال مطبوعات أخري تصدر في سياق المناكفة بين هذه الدولة وتلك. من الواضح أن الأنظمة العربية قد ضاقت ذرعاً بهامش الحرية المعقول الذي صنعته بعض الفضائيات، لاسيما الجزيرة، إلي جانب عدد من الفضائيات الأخري مثل الحوار والمنار وبعض الفضائيات اللبنانية، إلي جانب بعض البرامج الجريئة في فضائيات محافظة، فضلاً عن عدد من الفضائيات الإسلامية التي تساهم في نصرة قضايا الأمة علي نحو لا يعجب الأمريكان الذين يتخصصون في استهداف هذه الأمة، بحسب الأجندة الصهيونية في معظم الأحيان. الأكيد أن المنظومة الجديدة لن تتجرأ علي التعويض لفضائيات أجنبية تبث بالعربية مثل الحرة الفرنسية والروسية، والبي بي سي، مع انها تبدو أكثر ميلاً لمجاملة الأنظمة، ربما لأن مموليها يتواطأون مع الأوضاع الرسمية العربية السائدة بعد إدراكهم لحقيقة أن المعارضة هي الأكثر رفضاً للوصاية الأجنبية بمختلف أشكالها. من حقنا أن نضع أيدينا علي قلوبنا من هذا التوافق العربي الرسمي علي مطاردة الفضائيات ذات السقف المرتفع في التعاطي مع القضايا الداخلية والخارجية في العالم العربي، والذي يستعيد منظومة التعاون الأمني الأكثر فاعلية في النظام العربي الرسمي، لكن ما يقلل من مخاوفنا هو هذه المناكفات الدائمة بين الدول العربية، والتي قد تحول دون تنفيذ العقوبات المنصوص عليها، فضلاً عن تحفظ من تحفظوا، والأهم من ذلك ثورة الإنترنت التي قد تشكل بديلاً في حال استهدفت الفضائيات بالمطاردة، لكن ذلك لا يغير بحال من بؤس ما جري ودلالته علي إصرار النظام العربي الرسمي علي تحدي عجلة التغيير.