نعم تجتاح العالم أوضاع غير مسبوقة بالنسبة لأسعار الطاقة والخامات والغذاء إلي الدرجة التي يطلق عليها البعض مثلث التضخم؛ ذلك أن أسعار الطاقة بمختلف أوضاعها وصورها قد ارتفعت إلي مستويات غير مسبوقة في التاريخ كما أن أسعار معظم الخامات التي تدخل في مختلف المنتجات قد واصلت هي الأخري تلك الارتفاعات مما انعكس في النهاية علي أسعار السلع والخدمات.. والمحاصيل الزراعية التي تدخل في الغذاء أبت هي الأخري إلا أن ترتفع إلي مستويات لم تكن متوقعة بل إن بعضها أصبح مصدرا للوقود الحيوي مما رفع من معدل الطلب عليها فصب كل ذلك في ارتفاعات جامحة ومجنونة في أسعار الغذاء.. وإذا أضفنا إلي ذلك كله ما يمكن أن يوجد علي مستوي الأسواق المحلية من أوضاع وممارسات يسهم بعضها علي الأقل في تغذية تيار الارتفاع الصاروخي في الأسعار.. فإن المشهد علي هذا النحو أصبح يسبب ذعرا وقلقا شديدا من هذا الثالوث الذي يكاد أن يمسك بخناق الجميع بدرجات متفاوتة ولكن أصبح الجميع "في الهم شرق" كما يقولون. وفي هذا السياق تحتل قضية الأمن الغذائي أهمية خاصة ذلك أنه لم يعد من الممكن أن تعتمد دولة من الدول علي الخارج في الحصول علي النسبة الأكبر من متطلبات ومستلزمات غذائها لاسيما بالنسبة لضروريات الحياة وأصبح لزاما أن تتخذ من السياسات والإجراءات ما يتلاءم مع طبيعة المشهد الجديد والذي من المتوقع أن يطول وأن يثبت أن مقولة: "إن أمن الغذاء الرخيص قد ذهب إلي غير رجعة" مقولة صحيحة وها هو روبرت زوليك رئيس البنك الدولي يحذر من هذا الغلاء ومن نقص السلع الأساسية ويشيد بقرارات تخفيض وإلغاء الرسوم الجمركية والضرائب علي بعض السلع الغذائية التي اتخذتها بعض الدول لمواجهة ارتفاع أسعار الغذاء. كما أن منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة والمعروفة بالفاو هي الأخري قد راحت تؤكد علي خطورة أزمة نقص الغذاء وارتفاع أسعار المواد الغذائية وأن المخزون العالمي من الحبوب لم يعد يكفي إلا لفترة من 8 إلي 12 أسبوعا فقط وهو أدني مستوي وصل إليه هذا المخزون العالمي من الحبوب منذ الثمانينيات. وأشار تقرير الفاو إلي عدة عوامل ساهمت في ذلك، منها زيادة الطلب ونقص العرض والمضاربة في السلع الغذائية وضعف الدولار. ولم يقف الأمر عند هذا الحد فقد حذر البنك الدولي أيضا بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من انها سوف تواجه أزمة حقيقية في المياه ستصل بنصيب الفرد إلي التراجع مما سيكون له عواقب خطيرة وقد تنشأ النزاعات حول المياه العابرة للحدود. وإزاء ذلك كله فقد راحت كل الدول تضع من السياسات والإجراءات وتتخذ من التدبيرات ما يتلاءم مع طبيعة تلك الأزمة وهذه الهجمة وذلك المشهد، فبعضها قام بتخفيض الجمارك وبعضها يحاول تثبيت الأسعار بالنسبة لبعض السلع الضرورية أو وضع حد اقصي لأسعار البعض الآخر كما يسعي كثير من الدول لاسيما التي تمتلك امكانيات في الزراعة إلي التوسع في زراعة المحاصيل علي أراضيها.. كما عملت بعض الدول إلي زيادة الدخول سواء في شكل زيادة في الرواتب أو منح علاوات اجتماعية أو غيرها من الصور والأساليب. وهناك عنصر آخر أري أن المعادلة لا تستقيم بدونه بل لعله أحد العناصر الفاعلة في هذا الشأن وهو عنصر الإنتاجية وذلك للاعتبارات التالية:- أولاً:- انه يعمل علي زيادة المخرجات المنتجة باستخدام نفس الحجم من المدخلات وهذا يعني بالنسبة للأرض الزراعية أن نحصل علي كمية أكبر من ناتج الفدان أي الحصول علي كمية أكبر من المحاصيل من نفس مساحة الأرض المزروعة.. ويعني بالنسبة للعمالة أن نحصل علي إنتاج أكبر عند نفس الحجم من العمالة وعند نفس الحد من الأجور. ثانياً:- انه لا يمكن إغفال الأثر الإيجابي للحد من الضياع والفاقد في كل مراحل العملية الإنتاجية وفي كل المنتجات ولدينا في مصر حجم غير قليل من الفاقد في المحاصيل الزراعية بسبب سوء التخزين وبأسباب أخري تتعلق بالنقل والاستخدام كما أن لدينا فاقداً كبيراً في مياه الري والزراعة ومياه الشرب لأسباب عديدة يستلزم الوقوف عندها ووضع السبل والبرامج اللازمة لمواجهتها مما يعمل في النهاية علي رفع الإنتاجية في جميع المجالات المرتبطة بتلك الموارد النادرة والثمينة. ثالثاً:- انه لا يمكن ولا يستقيم النظر إلي زيادة الدخول في ضوء ارتفاع الأسعار دون أن نأخذ في الحسبان عنصر الإنتاجية لأن زيادة الأجور التي لا يقابلها زيادة في الإنتاجية سوف تصب مرة أخري في تيار ارتفاع الأسعار ونظل عند نفس النقطة وأمام نفس المشكلة نعم ستزيد الأجور ولكن ستزيد الأسعار أيضا وربما بمعدلات أكبر فكأنك يا أبو زيد ما غزيت. رابعاً:- إن زيادة الإنتاجية هي المدخل الأساسي الذي يمكن في الأجل القصير أن يعطي عائدا سريعا لأنه لن يستلزم توسعات واستثمارات كبيرة تعطي عائدها علي الأجل المتوسط وعلي الأجل الطويل.. صحيح أن هناك بعض قضايا الإنتاجية قد تحتاج إلي وقت مثل رفع مهارات العاملين ورفع كفاءة الإدارة ورفع كفاءة النظم في مختلف الأنشطة وفي جميع قطاعات الاقتصاد الوطني إلا أنه صحيح كذلك أن كثيراً من قضايا الإنتاجية لا تحتاج لتوفيرها إلي زمن طويل كما لا تحتاج في الحصول علي عائدها إلي انتظار طويل. خامساً:- إن قضية الإنتاجية قضية مجتمعية يجب أن نتشارك حولها جميعا وهي تحتاج إلي مزيد من الوعي لأهميتها ومزيد من الإيمان بضرورتها ويلعب الإعلام بوسائله المختلفة دورا محوريا في هذا الشأن.. كما أن منظمات المجتمع المدني لابد لها أن تهتم بهذا الأمر إذا أردنا أن نوجد حلولا موضوعية لمواجهة الخطر القائم والقادم بالنسبة للغلاء وبالنسبة للغذاء وبالنسبة للموارد الأساسية وعلي رأسها المياه. أيها السادة انها الإنتاجية التي يجب أن نفتش عنها في الوقت الذي يهدر في شوارعنا وفي الموارد التي تضيع في مصانعنا وفي سوء الاستخدام والإسراف والتبذير في كثير من كنوز التنمية ومرتكزاتها من مياه وطاقة وبشر وكل ذلك يستلزم نظرة كلية ورؤية مستقبلية تضع الأمور في نصابها وتفتح باب الأمل بالعمل والجدية.