عندما يتذوق الفلسطينيون طعم الحرية، والأكل، وكل شيء حرموا منه بفرض الحصار علي قطاع غزة، فإنه يصبح من المستحيل أن يعودوا إلي نقطة الصفر، وهي العودة إلي القطاع، وقبول الأمر الواقع من جديد وحالة الحصار الجائر. تلك هي الوضعية الجديدة التي واجهتها السلطات المصرية بعد أن سمحت لآلاف الفلسطينيين بالتدفق علي رفح ومنها إلي العريش، ومازالت تحاول الجهات الأمنية السيطرة علي الموقف، ودفع تلك الآلاف إلي العودة في هدوء إلي القطاع. وبحسب تقديرات مسئولين محليين في العريش، فإن ما لا يقل عن 350 ألف شخص عبروا الحدود من منفذ رفح، وكانت فرصة نادرة للخروج من السجن الكبير "غزة" والتزود بالسلع والوقود وجميع الاحتياجات في محنة الحصار الإسرائيلي الجائر، وكان بعضهم يجرون عربات، باليد، وبعضهم استعانوا بالحمير لجرها حاملين الحقائب لملئها بالسلع الاستهلاكية. وعلي امتداد ثلاثة أيام، أصبح من المعتاد تلك المشاهد لمواطنين فلسطينيين يحملون الخراف والأغنام فوق سيارات نقل عائدين إلي غزة، وشاحنات محملة بالأسمنت ومواد البناء، وهي المواد التي نفدت من غزة منذ عدة أشهر بسبب الحصار مما أدي إلي توقف أنشطة البناء.. إضافة إلي الأكياس المليئة بالمواد التموينية الغذائية وأحيانا أواني بلاستيكية محمولة فوق الأكتاف، فيها سكر وعدس ودقيق. وقالت أم محمد من مخيم الشاطئ: اشتريت كل ما أحتاجه من طحين يكفيني لأطعم أولادي شهورا. أما الحاج أبو سعيد فقد اشتري طعاما وسجائر وجالونين من وقود الديزل وبعض الأدوية، بل وحتي الأسرة والمراتب. وقد تهافت أهالي غزة علي شراء الأجهزة الالكترونية مثل التليفونات المحمولة، والتليفزيونات مما أدي إلي نفاد المخزون من محلات رفح والعريش. ويقول أبو أحمد "أحد تجار سوق العريش": إن المدينة كانت في أشد الحاجة إلي الفلسطينيين نظرا للركود الكبير الذي يعانون منه، وقد اشتروا جميع أنواع البضائع مما حقق رواجا كبيرا.. أما أبو صادق فانتقد عملية رفع الأسعار نظرا للطلب غير المسبوق علي البضائع، قائلا: إن المعدلات ارتفعت أكثر من ثلاثة أضعاف حتي أن جركن السولار وصل إلي 100 شيكل وسعر كيلو السكر والدقيق تجاوز السبعة جنيهات حتي أن أرفف المحلات أصبحت خاوية، ونبه إلي أن هناك استغلال مجحفاً لا يصح مع الاخوة الفلسطينيين علي حد تعبيره. وجاءت أم اليسر مع أطفالها الخمسة واستعانت بهم لحمل صفائح من الجبنة، وأكياس من السكر، والدقيق والزيت وأكدت أنها مسئولة عن إطعام عشرة من أبنائها، وأن المواد التموينية نفدت منذ عدة أيام، وأنهم في "مجاعة". وكان مشهد السيارات الفارغة التي تدخل رفح فارغة وتعود إلي غزة محملة بمستلزمات الحياة ظل أمرا متكررا طيلة اليومين الذين سمحت فيهما السلطات المصرية بفتح المعبر، غير أنه ومنذ ظهر الجمعة الماضية أصبحت مكبرات الصوت تعلن للفلسطينيين ضرورة عودتهم إلي القطاع فلا يخفي القلق الأمني وكيفية احكام السيطرة علي المنافذ والعبور من العريش الي بقية المحافظات المصرية لذلك انتشرت الكمائن في مختلف الاتجاهات حتي لا تتحول المدينة إلي فوضي طالما ان فتح تلك الثغرة في حاجز رفح يدخل ضمن الحلول المؤقتة للحصار. وفي مقابل حالة الابتهاج والترحيب الفلسطيني شعبيا ورسميا بموقف مصر في السماح لمواطني غزة بالدخول والشراء والتسوق بدأت تظهر مواقف مناقضة بعد ان أعلنت مصر إغلاق المعبر والسماح فقط لعودة الفلسطينيين الي ديارهم. واستمرت حركة البضائع في الانسياب بشكل طبيعي من منفذ صلاح الدين في حين تقوم قوات الأمن المصرية بعمليات تمشيط لمدينة العريش والشيخ زايد ورفح لدفع الغزاويين للعودة ونصبت المزيد من الكردونات الأمنية حول مداخل سيناء منعا للتسلل وقد تجمع بضع مئات امام مديرية الأمن بالعريش طالبين الحصول علي تأشيرة الدخول الي مصر استعدادا الي التنقل للقاهرة ومنها إلي أي وجهة عربية أخري. ولم تختم السلطات المصرية الجوازات إلا للمرضي والطلاب الذين كانوا عالقين علي الحدود منذ فترة طويلة تصل إلي سبعة أشهر وكان 80 فلسطينيا قد توفوا وفقا لبيانات وزارة الصحة الفلسطينية جراء الحصار ومنع سيارات الاسعاف من العبور لايصالهم الي المستشفيات. وفي المقابل فان المئات من المصريين من أبناء سيناء الذين قاموا باجتياز المعبر نحو الأراضي الفلسطينية للتسوق كان لابد لهم ان يعودوا بعد إعلان اغلاق المعبر لذلك فاضطروا الي العودة محملين بالملابس الجاهزة والاغطية عالية الجودة ورخيصة السعر بجانب رؤية الأهل والأقارب الذين فصلتهم الحدود في مدينة رفح. ورغم ان التقديرات لم تستطع حصر حجم التجارة الذي تحقق خلال الأيام الخمسة الماضية إلا أن شهود العيان من التجار وأهالي العريش ورفح يجزمون بأنه كان لا يقل عن عدة مئات من ملايين الدولارات وكانت الادوية والمواد التموينية والألبان والسولار والبنزين والمنظفات والسجائر واللحوم والاسمنت في مقدمة السلع المصرية التي تدفقت الي غزة ويؤكد احمد السيناوي من رفح المصرية ان اجمالي القيمة ارتفع عدة اضعاف نتيجة المبالغة في الأسعار. وبعيدا عن هذا "البزنس" الذي تم والتجار الذين تربحوا من هذه الظروف فان القضية الحقيقية تظل مطروحة وهي حالة الحصار الجائر المفروضة علي قطاع غزة والتي لم تحلها قرارات وزراء الخارجية بالأمس ولا محاولات مصر لتحقيق انفراجة سواء بفتح مؤقت للمعابر أو بممارسة ضغوط سياسية علي الفصيلين حماس وفتح لاجراء مفاوضات نحو المصالحة وهو الأمر الذي تستغله اسرائيل لتبرير المزيد من فرض حصارها.