أهمية الأوضاع في قطاع غزة بالنسبة لمصر تزيد كثيرا عن أهميتها بالنسبة لأي دولة أخري في المنطقة أو العالم, فوجود إقليم مضطرب عبر الحدود المصرية يرتب عليه تهديدات وأعباء أمنية شديدة الخطورة فضلا عن الصلة بين الوضع في غزة والقضية الفلسطينية التي انشغلت بها مصر واستثمرت فيها في اتجاهات متعددة عسكرية واقتصاديا وأمنية وسياسية, حتي كانت القضية الفلسطينية تمثل طوال القسم الأكبر من الستين عاما الماضية القضية المركزية التي ارتكزت عليها السياسة الخارجية المصرية, حتي كاد يصبح نجاح مصر في إدارة سياستها الفلسطينية معيارا للسمعة والمكانة الإقليمية ونجاح الإدارة السياسية. ومنذ الحرب علي غزة قبل ما يقرب من عامين ركزت مصر جهودها لوضع وتثبيت إطار تعاقدي قابل للدوام ينظم العلاقة بين الفصائل الفلسطينية المنقسمة, وبين قطاع غزة وإسرائيل, كل ذلك في إطار المراهنة علي إعادة إحياء عملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية, باعتبار أن السلام الفلسطيني الإسرائيلي يمثل الإطار الأوسع والبعيد المدي للتعامل مع الجوانب المختلفة للوضع المضطرب في القطاع الجار. المشكلة الأهم التي واجهتها السياسة المصرية في التعامل مع أوضاع القطاع هي التركيز علي اعتبارات المدي الطويل سواء فيما يخص علاقات الفصائل الفلسطينية أو علاقات إسرائيل والفلسطينيين, دون إعطاء اهتمام كاف بقضايا المدي القصير. الاختيارات المصرية من الناحية الإستراتيجية هي الأكثر دقة وصوابا, غير أن عدم إعطاء اهتمام كاف لقضايا المدي القصير, خاصة في ظل تعثر وبطء التقدم في تحقيق الأهداف بعيدة المدي, جعل مصر تبدو وكأن ليس لديها سياسة فيما يتعلق بغزة, وهو خطأ تكتيكي خطير لأن الاستراتيجيات الصحيحة لا تكشف عن نفسها سوي عبر تكتيكات واضحة محددة المعالم, تمسك بالمبادرة, وتصنع المزاج العام. لقد أنتج العدوان الإسرائيلي علي أسطول الحرية, وما ترتب عليه من تغير في المزاج العالمي تجاه الحصار المفروض علي قطاع غزة, أنتج ميزانا جديدا للقوة عنوانه الرئيسي هو رفض استمرار الحصار المفروض علي القطاع, وضرورة البحث عن أساليب جديدة تجنب الفلسطينيين في قطاع غزة دفع ثمن إنساني وسياسي باهظ للصراعات السياسية الجارية بين الفلسطينيين والإسرائيليين, وبين الفلسطينيين وبعضهم البعض. ومع أن تاريخ الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية هو في جانب منه تاريخ لسلسلة من عمليات الحصار والإغلاق المتقطعة وفقا لمقتضيات المصلحة الإسرائيلية, إلا أن الحصار المفروض علي قطاع غزة دخل مرحلة جديدة منذ انقلاب حركة حماس ضد السلطة الفلسطينية الشرعية, وانفراد الحركة بالسيطرة علي القطاع, وفصله عمليا عن الجزء الأكبر من الوطن الفلسطيني المحتل. حيث خلقت سيطرة حركة حماس علي القطاع وضعا جديدا لا يسمح بمواصلة العمل وفقا للإطار المنظم لحركة السكان والبضائع والمساعدات من وإلي قطاع غزة, وهو الإطار الذي تم تطويره في إطار عملية الانسحاب الإسرائيلي المنفرد من قطاع غزة في صيف عام2005. الحصار الذي فرضته إسرائيل علي القطاع بعد استيلاء حركة حماس علي السلطة في قطاع غزة أصبح أكثر إحكاما بعد الحرب التي شنتها إسرائيل علي القطاع في يناير2009, حيث ارتبط انتهاء العمليات القتالية بتأسيس نظام محكم للحصار تقوده إسرائيل, ويقوم علي تفاهم بينها وبين قوي دولية خاصة الولاياتالمتحدة. ومع أن هذه التفاهمات لا ترقي إلي مستوي المعاهدات والاتفاقيات الدولية الملزمة, إلا أنها وفرت لإسرائيل مظلة من الحماية والشرعية النسبية في محاصرتها للقطاع المحتل. الحصانة النسبية التي تمتع بها الحصار الإسرائيلي علي قطاع غزة كان في جانب كبير منه انعكاسا لدرجة غير قليلة من القبول تمتعت بها الحجة الإسرائيلية لدي بعض الأوساط الرسمية في العالم الغربي, أولا لشن الحرب علي القطاع في يناير2009, وثانيا لإحكام الحصار علي القطاع في المرحلة التي تلت الحرب. فقد استند التفهم النسبي للحجة الإسرائيلية في دوائر غربية إلي المواقف الإيديولوجية والسياسية لحركة حماس, وإلي مواصلة إطلاق الصواريخ من قطاع غزة علي إسرائيل. غير أن ميزان التهديد والقوة الأخلاقية والسياسية تغير كثيرا منذ فرض المرحلة الحالية من الحصار الإسرائيلي. فقد توقفت حركة حماس نهائيا عن إطلاق الصواريخ علي جنوب إسرائيل, وبذلت حكومة حماس جهودا كبيرة, كانت في الغالب ناجحة, لمنع الفصائل الفلسطينية من إطلاق الصواريخ علي إسرائيل, وذلك في إطار اتفاق ضمني عادت حماس بمقتضاه للالتزام باتفاق غير مكتوب للتهدئة مع إسرائيل, وهو الاتفاق الذي أسهمت الدبلوماسية المصرية في إنتاجه. لقد أدي توقف حماس عن شن عمليات عسكرية ضد إسرائيل إلي تأمين سكان جنوب إسرائيل, إلا أن سياسة الحصار الإسرائيلي المحكم علي القطاع عرضت السكان الفلسطينيين في قطاع غزة إلي مستوي غير مسبوق من التهديد الإنساني والاقتصادي. والتدهور المتزايد للأوضاع في قطاع غزة في غياب أي سياسة جادة لإنهاء هذا الوضع أعاد وضع الحصار ونتائجه علي قمة قائمة الاهتمامات العالمية, وفي هذا الاتجاه لعبت جهود نشطاء الحملات المتعاقبة لإنقاذ غزة دورا كبيرا, وبشكل خاص كان للنتائج الدامية لمحاولة إسرائيل منع أسطول الحرية من الوصول للقطاع دورا حاسما في تغير المزاج الدولي تجاه الوضع في القطاع. لقد تجمد الوضع المتعلق بقطاع غزة منذ انتهاء الحرب الإسرائيلية علي القطاع, فكانت النتيجة هي تحول الوضع الذي بدأ مؤقتا وظرفيا في مطلع عام2009, إلي وضع دائم. وبعد أن أخفقت جهود تجديد اتفاق التهدئة بين إسرائيل وحماس, وأيضا بعد أن أخفقت جهود المصالحة بين الفصائل الفلسطينية, فإن السياسة الوحيدة التي كانت متبعة تجاه القطاع, هي' اللا سياسة'. فالبدائل التي تم اختبارها لم تنجح, بينما لم يتم تطوير بدائل جديدة فعالة, وهو الوضع الذي نجحت جهود نشطاء غزة في تغييره. الأوضاع الإنسانية لسكان قطاع غزة هي المدخل المناسب لبناء تكتيكات مصرية فعالة تجاه الأبعاد المختلفة للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي, وهي القضية التي يمكن لها أن تمثل العنوان والشعار الذي يبرهن علي الأولوية التي تعطيها مصر للقضية الفلسطينية. أهمية الأوضاع الإنسانية للفلسطينيين في غزة هي أنها تضع أساسا أخلاقيا مفهوما للسياسة, علي عكس الاختيارات الإستراتيجية التي يصعب شرحها. وفي المرحلة الراهنة استطاعت أطراف إقليمية المبادرة بالإمساك بهذه الورقة, كما شرعت قوي ومنظمات دولية في تعديل سياساتها تجاه الأوضاع الإنسانية في القطاع. والمطلوب من مصر في هذه المرحلة هو التفاعل مع هذه الجهود بطريقة تتيح لها استعادة المبادرة, وتجعلها الطرف الإقليمي الأكثر فعالية في التعامل مع الأوضاع الإنسانية في القطاع. فمن المهم أن تتمسك مصر باختيارات إستراتيجية سليمة, ولكن من المهم لها أيضا أن تحرص علي أن تضع نفسها في موقع القيادة لسلسلة من التحركات والمبادرات التكتيكية النشطة القادرة علي خلق قوة دفع كافية, من ناحية لتعزيز المكانة الإقليمية لمصر, ومن ناحية ثانية لتحقيق هدف مصر الاستراتيجي الخاص بتحقيق سلام دائم وعادل يستعيد للشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة. ويمكن أن يكون قرار مصر بالفتح غير محدد المدة لمعبر رفح هو الخطوة الأولي في هذا الاتجاه, غير أن عددا إضافيا من المبادرات النشطة مازال مطلوبا للحفاظ علي قوة الدفع, ولاستعادة المبادرة من آخرين لا تمثل لهم غزة أو فلسطين ما تمثله من أهمية لمصر.