مازالت أصداء قرار بيع بنك القاهرة تثير الكثير من ردود الافعال المتباينة العنيفة - التي يصب معظمها في رفض البيع - ليس بسبب الطريقة الدرامية التي اعلنت بها الحكومة عن قرار البيع بعدما استقر في الاذهان دمجه في بنك مصر منذ اقل من عام، ولكن ايضا بسبب التسرع الذي اصبح سيد الموقف في معظم القرارات التي تتخذها الحكومة الرشيدة فيما يتعلق بالهرولة نحو الخصخصة وهو ما نرفضه خاصة اذا كان القرار يمس قطاعا يعتبر من اهم ركائز واعمدة الاقتصاد الوطني الا وهو البنوك والسبب الثالث هو الاصرار علي بيع البنك للأجانب رغم ما يمثله ذلك من خطورة علي الاقتصاد المصري وتاريخنا يحمل اكثر من مثال علي ذلك. القرار الذي اتخذته الحكومة نزل علي رؤوسنا كالصاعقة لانه لم يسبقه أي تمهيد حيث اعتقد الجميع ان قرار الدمج هو أول طريق الاصلاح والتطوير وان هذا الملف أغلق بعد سنوات من التعثر بسبب السياسات الخاطئة والاوامر العليا بمنح قروض لعدد من رجال الأعمال دون أي ضمانات أو غيره وفي النهاية هرب عدد من هؤلاء الاشخاص (او تم تهريبهم) إلي الخارج بعد ان استولوا علي مليارات الجنيهات وتم الحكم بالسجن علي البعض الآخر، كان ان تصريحات الحكومة بشأن البيع شابها الكثير من الغموض والالتباس ولم تطلع الرأي العام بموقف البنك بكل وضوح وامانة ولماذا فشلت محاولات الدمج والاستحواذ؟ مما زاد من حالة التخبط والارتباك بل والشك داخل اوساط كثيرة في المجتمع. ويبدو انه من خلال الهرولة في عملية الخصخصة من الاراضي الي الاسمنت والشركات العريقة مرورا بالبنوك لا تجد الحكومة أي غضاضة في بيع واحد من بنوكنا الوطنية التي تعد العمود الفقري للاقتصاد القومي والتنمية بل ان الحفاظ عليها في قبضة الدولة يعد تأكيدا للسيادة الوطنية واذا عرفنا انه بعد بيع بنك القاهرة سوف ترتفع حصة البنوك الاجنبية إلي أكثر من 35% من حجم السوق ندرك مدي الخطر الذي نحن مقبلون عليه ولكن من الواضح ان الحكومة لها رأي آخر ومصرة بكل اطمئنان إلي السير في اجراءات البيع. في عام 1922 احس الاقتصادي الكبير طلعت حرب ان البنوك الأجنبية العاملة في مصر ترفض المساهمة في المشروعات الوطنية بل تحارب فكرة اقامة صناعة مصرية خالصة من الاساس فقرر انشاء بنك مصر من خلال دعوة المصريين للاكتتاب العام ونجحت الفكرة واستطاع البنك ان يسهم في تأسيس 17 شركة مصرية في كل المجالات مثلت نواة قوية لقيام نهضة اقتصادية مصرية وذلك قبل ان نهدرها ونسيء ادارتها ثم نبيع معظمها بأبخس الاثمان وبعد قيام الثورة رفضت البنوك الاجنبية تمويل محصول القطن او تمويل الخطة الخمسية الأولي، وعندما قرر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بناء السد العالي رفضت هذه البنوك ومعظمها انجليزية وفرنسية تمويل المشروع ومن هنا جاء قرار التأميم. ومعظم دول العالم تحرص علي أن تبقي سيطرتها علي الجهاز المصرفي والمالي لكونها مؤسسات اقتصادية سياسية من جهة ولكونها تؤمن الاقتصاد الوطني وتدعم تنفيذ برامج الاصلاح وتمويل المشروعات الانتاجية والصناعية الحيوية دون ان تجد من يعوقها في اداء ذلك، والدول الكبري التي تمتلك اقتصادا قويا لا تسمح بمثل هذا التفريط في اصولها المصرفية، وامريكا علي سبيل المثال لا تسمح بتملك الاجانب اكثر من 2% داخل القطاع المصرفي أما النظام الفرنسي فإنه يشترط عدم قيام أي بنك اجنبي بالعمل في فرنسا دون وجود شريك فرنسي وهذا هو الوضع الصحيح الذي يجب ان يحدث. واذا القينا نظرة علي البنوك الاجنبية العاملة في مصر نجد أنها تتجه في الغالب إلي انشطة الاقراض الاستهلاكي لشراء سيارة أو أثاث او منح قروض مدرسية، واحيانا تستثمر في مشروعات عقارية وسياحية وترفيهية لما لهذه المشروعات من عوائد سريعة ومرتفعة ومخاطر أقل، ولا تضخ هذه البنوك أموالا في مشروعات حقيقية تسهم في التنمية وتعود بالنفع علي المجتمع، كما ان هناك مخاوف حقيقية ومبررة من ان هذه البنوك تقوم بضخ أموال المودعين فيها داخل فروعها في الخارج وذلك في ظل عدم وجود رقابة حقيقية من البنك المركزي أو غيره علي هذه البنوك التي تعتبر سيدة قرارها بعيدة عن أي توجيه أو مساءلة! ولذلك تمثل هذه البنوك عبئا علي الاقتصاد لأن معظم ودائعها تذهب للخارج مما يزيد الضغوط علي البنوك الوطنية الباقية في اقامة المشروعات وتنفيذ برامج الاصلاح والادهي والامر ان هذه البنوك لا تتدخل لمساعدة الحكومة والمقترضين علي جدولة ديون او خلافه عند حدوث كوارث أو أزمات طارئة في البلاد وابلغ دليل علي ذلك اننا لم نسمع عن بنك أجنبي واحد يعمل في مصر عرض المساعدة علي الحكومة عندما حدثت تفجيرات طابا ودهب وشرم الشيخ، وكل ذلك تقوم به البنوك المصرية وحدها ايمانا منها بدورها نحو المجتمع وسلامته وتأمين واستثماراته وهو ما تفتقده الفلسفة التي تقوم عليها البنوك الاجنبية. والسؤال الذي يفرض نفسه الآن هو لماذا القرار ببيع البنك؟ رغم ان احد الخبراء المصرفيين اعتبره من أفضل البنوك العامة حيث تتجاوز محفظته الاستثمارية 47 مليار جنيه ويمتلك 230 فرعا، وربما هناك حلول اخري لتطوير أداء البنك اولها طرح اسهم البنك في الاكتتاب العام داخل البورصة وثانيها يمكن سحب نحو 5.3 مليار دولار (حوالي 20 مليار جنيه) من الاحتياطي الاجنبي الموجود في البنك المركزي وضخها في البنك لخفض حجم الديون المتعثرة في محفظته، ثم أين المشروعات التي يساهم فيها البنك وتحقق ارباحا بالمليارات أليس من المفترض ان يكون لها دور في تحسين أداء البنك؟. رحم الله طلعت حرب الذي أسس بنك مصر من أجل اقامة اقتصاد وطني بعيدا عن السيطرة الاجنبية واملاءاتها المغرضة والذي نجح في اقامة صروح اقتصادية شامخة أهدرنا معظمها بسوء الادارة والجري وراء قطار الخصخصة الذي يسير بنا منذ سنوات بلا دراسة ولذلك كان نجاحه محدودا، كما رحم الله علي نجم محافظ البنك المركزي الاسبق الذي كان من أشد المعارضين لبيع البنوك الوطنية وكان يعرب عن مخاوفه من سيطرة الأجانب علي معظم القطاعات الاقتصادية المختلفة في مصر. [email protected]