حوار مع النفس! بدأ رئيس الوزراء البريطاني "توني بلير" عهده بنوع من الابتهاج الذي عم بريطانيا، بعدما استطاع حزب العمال العودة مجددا من صفوف المعارضة التي ظل فيها لحوالي 18 سنة اثر الانتصار الساحق ل"توني بلير" في انتخابات عام 1997 حينها بدأ كل شيء ممكنا بعدما تحدث بلير عن بزوغ فجر جديد وتحول شعار حزب العمال إلي الأمور كلها سوف تتحسن لكن اليوم وبعد مرور عقد من الزمن علي صعود حزب "العمال" إلي السلطة، وفي الوقت الذي يستعد فيه بلير لمغادرة منصبه وهو ينوء بأعباء حرب غير شعبية وانحدار كبير في معدلات شعبيته أصبح شعار الحزب الذي كان براقا في السابق نغمة نشاز خارجة من السياق والسبب أن الأمور في نظر العديد من النقاد لم تتحسن كما أعلن في الوعود بل تراجعت إلي الوراء والأكثر من ذلك أن مغادرة "توني بلير" للحياة السياسية تأتي في وقت تشهد فيه السياسة البريطانية تحولات جوهرية. وقد نجح الحزب الوطني الاسكتلندي الانفصالي في التقدم علي حزب العمال ليبرز كأحد أكبر الأحزاب في الانتخابات المحلية التي أجريت في الثالث من الشهر الحالي، منهيا بذلك نصف قرن من هيمنة الحزب "العمالي" في اسكتلندا ولم يختلف الأمر في "ويلز" أو انجلترا نفسها بعدما حقق فيها "المحافظون" عودة مظفرة في انتخابات المجالس المحلية التي توفر القاعدة الحقيقية للانتخابات الوطنية أما في الولاياتالمتحدة فإنه ينظر إلي "بلير" علي أنه القائد الذي تحالف مع أمريكا وقف معها بعد أحداث 11 سبتمبر فقط للتضحية بشعبيته في الداخل واعتناقه لعقيدة سياسية تبشيرية في تحالف وثيق مع إدارة الرئيس بوش وقد أوضح بلير نفسه هذه الرؤية السياسية الجديدة خلال خطاب ألقاه في مؤتمر حزب العمال عام 2001 قال فيه: "لقد تغيرت الرقعة السياسية بعد أن تناثرت الأحجار وعلينا قبل رجوعها إلي مواقعها أن نعيد ترتيب العالم" تداعيات هذا التصريح تظهر بوضوح في العراق وأفغانستان بل وحتي في بريطانيا نفسها، حيث يسوق منتقدو "بلير" حرب العراق باعتبارها السبب الرئيسي لمغادرته، بينما يعاني حزبه أيضا لمعاقبة الناخبين، الذين صوتوا ضده في الانتخابات المحلية. لكن مع ذلك تنطوي تركة "بلير" في نظر العديد من البريطانيين، علي تعقيدات ليس من السهل ادراكها فهو وإن كان قد تعسر في تحسين التعليم والنهوض بالرعاية الصحية، إلا أنه نجح في اعادة صياغة مركز الثقل في السياسة البريطانية. فقد حرص "بلير" علي التأكيد بأنه سيغادر منصبه كرئيس لحزب العمال، وبالتالي كرئيس للوزراء في نهاية شهر يونيو المقبل، ليكون ذلك بمثابة نهاية حقبة خاضت فيها بريطانيا حروبا، كما تمتعت بازدهار معقول، وظلت بمنأي عن أوروبا، مفضلة ربط مصيرها مع الولاياتالمتحدة في توجه لم تعرفه بريطانيا منذ الحرب العالمية الثانية وهي الحقبة نفسها التي يحق فيها ل"بلير" أن يفاخر بترسيخه لأسس السلام في ايرلندا الشمالية ونقل النقاش السياسي الوطني من "الفردية" المتطرفة التي أقامتها "مارجريت تاتشر" إلي سياسة اجتماعية ديمقراطية أكثر تصالحا مع فكرة الانفاق الحكومي علي المدارس والمستشفيات ويري البعض أن "بلير" استطاع تحقيق أكبر انجاز سياسي عندما نجح في اقناع خصومه قبل مؤيديه بفكرة المجتمع المتضامن، حيث يسعي "المحافظون" اليوم إلي تقديم أنفسهم كحزب يدافع عن التكافل. والأهم من ذلك أن "بلير"غير الفكرة التي كانت سائدة في السابق حول حزب "العمال" من أنه عاجز عن إدارة الحكومة، أو الاقتصاد وبخصوص هذا التحول الذي أدخله "توني بلير" علي المشهد السياسي البريطاني يقول "دين جودسون"، مدير الابحاث في أحد المراكز البريطانية لقد حول حزب "العمال" إلي القوة السياسية الأولي طيلة الجزء الأكبر من العقد الأخير ومع ذلك تعتري تركة "توني بلير" إلي زمرة رؤساء بريطانيا الكبار من أمثال "تشرشل" و"كليمونت اتلي" و"مارجريت تاتشر" انحدر إلي مرتبة متدنية لا يمكن أن تضاهي تلك الشخصيات وفي هذا الإطار يقول "ساندر كاتوالا" الأمين العام لجمعية "فابيان" اليسارية بصفة عامة يعد بلير من أنجح القادة في تاريخ حزب العمال، لأنه الوحيد الذي استطاع الفوز في ثلاثة انتخابات متتالية لكن السؤال هو ما الذي حققه خلال تلك الفترة؟ يلخص البعض تركة بلير" الطويلة في كلمة واحدة: العراق حيث يضيف "كاتوالا" قائلا: لقد أقنع بلير نفسه بأن قوته ستتعاظم إذا ما أصبح لاعبا ومشتركا في النقاش السياسي الأمريكي وحتي عندما وصفه البريطانيون ب"كلب" بوش المطيع، تحول بلير إلي أقرب حليف لأمريكا في غزوها للعراق عام 2003.