يتزايد ميل الشركات إلي تسوية ما بينها من منازعات تجارية عن طريق الوساطة بدلا من التقاضي خصوصا أن الوساطة قد أثبتت أنها طريق أرخص وأسرع وأكثر عدلا لحل منازعات الشركات.. وتقول مجلة "الإيكونوميست" إن قضية بنك الائتمان والتجارة الدولي ضد بنك انجلترا استغرق نظرها أمام المحاكم 13 عاما وتكلفت 100 مليون جنيه استرليني "196 مليون دولار" ووصفها محافظ بنك انجلترا بأنها أغلي عملية صيد أسماك في التاريخ كما وصفها أحد القضاة الذين نظروها بأنها كانت ملهاة! والحقيقة أن موافقة أي طرفين لنزاع تجاري علي حله عن طريق الوساطة يعني أن عملية التسوية لن تستغرق سوي يوم واحد ولا تكلف سوي عدة اَلاف قليلة من الجنيهات الاسترلينية ويذكر المركز البريطاني لحل المنازعات CEDR وهو من أكبر هيئات الوساطة في أوروبا ومقره لندن أنه ينظر سنويا في نحو 3 اَلاف نزاع تجاري وأن 70 80% من هذه النزاعات يتم حسمها في يوم أو يومين وأن 10 15% منها يتم حسمها في غضون أسابيع قليلة. لقد اعتادت الشركات التقاضي كطريق طبيعي لحل المنازعات خاصة في البلدان المتقدمة ولكن ازدحام المحاكم وارتفاع تكاليف القضايا جعلا التحكيم يبدو طريقا أفضل خاصة في النزاعات بين الشركات ذات الجنسيات المختلفة.. ولكن التحكيم أحيانا خاصة في بلد كالولاياتالمتحدة ليس هو الطريق الأرخص ولا الأعدل ولا الأسرع. ففي أمريكا يستغرق نظر نزاع أمام التحكيم نحو 7.16 شهر في المتوسط من لحظة عرضه حتي لحظة الفصل فيها.. ولذلك راجت طرق أخري لحل المنازعات خارج المحاكم مثل الوساطة.. ويقول سير ميخائيل كير الرئيس السابق لمحكمة لندن للتحكيم الدولي إنه مثلما كان يؤيد التحكيم بدلا من التقاضي فإن حماسه للتحكيم الاَن قد تاَكل كثيرا. وفي عبارة موجزة نقول إن اللجوء إلي الوساطة يتزايد الاَن بقوة في البلدان ذات التقاليد القانونية المختلفة أو حتي تلك التي ليس لها تقاليد قانونية.. ويتحدث كارل ماكي رئيس المركز البريطاني لحل المنازعات CEDR عما يسميه "ثورة عالمية" في اللجوء إلي الوساطة وإنه وغيره من مراكز حل المنازعات في هولندا وفرنسا وإيطاليا والولاياتالمتحدة يقدمون النصيحة والمشورة لهيئات الوساطة في العديد من بلدان العالم التي تشمل السعودية وروسيا وتايلاند واليابان وبنجلاديش والكاميرون وأوغندا والبوسنة وسلوفينيا.. وتقوم هذه المراكز حاليا بتدريب خبراء الوساطة من بلدان متعددة مثل نيجيريا وفنلندا والصين وكذلك عدد اَخر من البلدان الأوروبية حيث يمكن أن يصل أجر الخبير من هؤلاء إلي 20 ألف دولار يوميا. ونحن نعرف أن التحكيم يحاكي المحاكم حيث إن فيه قاعة للجلوس ومحامين عن كلا الطرفين ومحكما محايدا، أما الوساطة فإنها تعني تشجيع الطرفين علي الحوار والتوصل إلي صفقة مناسبة فيما بينهما ومهمة الوسيط هي دفع الحوار وليس إصدار القرار أو الحكم وهذه الطريقة عادة ما تكون هي الأسرع والأرخص والأكثر مرونة في حل المنازعات.. وهي أيضا العاصم من احتمال وجود أي فساد قضائي.. فالأطراف تتحكم في كل الإجراءات وليس هناك ما يفرض عليهم كما أنهم هم الذين يقررون نوع التسوية. وتقول مجلة "الإيكونوميست" إن هيئة الوساطة والتحكيم الأمريكية JAMS التي أنشئت منذ نحو 30 سنة لديها 200 وسيط محايد في سجلاتها، وهم عادة من القضاة السابقين أو المدعين العموميين السابقين أو أساتذة الجامعات وتفصل هذه الهيئة في نحو 10 اَلاف نزاع تجاري سنويا من مختلف أنحاء العالم وهو عدد يتزايد أيضا بسرعة كبيرة. وقد ذكرت ورقة أعدها مارك جالانتر أستاذ القانون في جامعة ويسكونس عام 2003 لحساب اتحاد المحامين الأمريكي ABA أن الشركات صارت تهجر القضاء التقليدي وتلجأ إلي الطرق الأخري خاصة الوساطة، ففي عام 1962 ذهبت 11% من النزاعات التجارية إلي القضاء أما الاَن فإن هذه النسبة لا تتجاوز ال 2% فقط. وتجدر الإشارة إلي أن الولاياتالأمريكية بما فيها أوريجون وكاليفورنيا وتكساس وفلوريدا بدأت تقيم هيئات للوساطة في بعض أنواع المنازعات ولا يعرض النزاع علي القضاء إلا إذا فشلت هيئات الوساطة في حله ونستطيع القول بأن هناك 1500 شركة قانونية ونحو 800 شركة إنتاج قد اعتادت أخيرا اللجوء إلي الوساطة في حل ما يعرض لها من منازعات مدنية. وفي أوروبا تلجأ فنلندا والدانمارك حاليا لاتخاذ نفس التدابير وينتظر أن تصدر المفوضية الأوروبية في الخريف القادم مرسوما يناغم قواعد الوساطة في مختلف بلدان الاتحاد الأوروبي.. ومثلما أقيمت هيئة بريطانية صينية للوساطة لها مكاتب في كل من لندن وبكين فإن هناك بلدانا عديدة أخري تشجع الشركات علي اللجوء إلي الوساطة أولا لحل ما بينها من منازعات وتشمل هذه البلدان كلا من الأرجنتين واستراليا وكندا وفرنسا واليونان وإسرائيل وسنغافورة. ومع ذلك فإن عرض النزاعات التجارية علي المحاكم لايزال له أهميته علي الأقل من زاوية أنه يقدم سوابق قضائية تكون مرشدا للمحكمين والوسطاء المحايدين في عملهم عند حل المنازعات عن طريق التحكيم أو الوساطة.