مع بداية شهر رمضان الكريم شاهدنا إعلانا في التليفزيون يطلب تبرعات لما يسمي "بنك الطعام" الذي يهدف "لمكافحة الجوع في مصر" ورغم قسوة التعبير الصادم فإنه يلقي الضوء علي حقيقة اصبح لا مهرب من مواجهتها وهي ان الجوع بات خطرا داهما في بلد كان بتردد فيه منذ ازمان مقولة "ماحدش بيموت من الجوع".. ومنذ ايام قرأنا عن قصة طلاب الجامعة الثلاثة الذين القي القبض عليهم متلبسين بتهمة التسول لانهم لم يجدوا ما يسد رمق عوائلهم او نفقات دراستهم، وامثلة كثيرة سببها الجوع تراوحت بين اللجوء للتطرف او الجريمة وزادت حالات الانتحار. ولا مفر من ان تستدعي هذه الامثلة للذهن امثلة اخري علي الطرف الثاني من المعادلة، تتعلق بقضايا الفساد ونهب المال العام بالملايين التي تكشفت وتلك التي تتردد عنها الاقاويل ولم يكشف عنها الستار بعضه وغيرها مما لازال في طي الكتمان ولم تفح روائحه بعد.. الامر الذي دفع بأحد كبار المسئولين لاطلاق صيحته الشهيرة "الفساد اصبح للركب". ظاهرة عالمية.. ولكن ولا يمكن لمنصف ان يشكك في ان الفساد ظاهرة عالمية بالفعل لا يخلو منها مجتمع.. بل ان معظم بلدان العالم المتقدمة تعلن بين حين وآخر عن فضائح مهولة تتعلق بذمم مسئولين او مصداقية مؤسسات عملاقة ولم يقل احد ان فساد الذمم لم يظهر الا في عصرنا مثلا دليلا علي اقتراب يوم القيامة. فالتاريخ حافل بانواع الفساد منذ بداية ظهور المجتمعات لكن مستويات الفساد تتفاوت بين المجتمعات سواء من حيث الحجم او من حيث تداعياته التي تصل الي حد وقوع نسبة غالبة من المواطنين في قبضة الجوع.. ولا شك ان قضية استشراء الفساد في العالم باتت تؤرق المسئولين والمحللين والمنظمات الدولية ايضا علي النحو الذي دعا الي انشاء عدد من المنظمات المعنية بمكافحة الفساد، ومن بين هذه المنظمات "منظمة الشفافية الدولية" التي انشئت عام 1995 ترفع شعار "الاتحاد العالمي ضد الفساد" وهي منظمة غير حكومية مقرها برلين تهدف بحسب بيان تأسيسها الي مساعدة الدول والافراد الراغبين في الحياة النزيهة بعد انتشار الفساد المالي والاداري سوا علي المستو الرسمي او غير الرسمي وعجز المؤسسات القطرية عن مواجهته بعدما تحول الي غول يلتهم ليس فقط جهود التنمية المحلية، بل ايضا الجهود الدولية المتمثلة في المنح والمعونات والقروض وقد دأبت المنظمة علي اصدار تقرير سنوي بعنوان "مؤشر مدركات الفساد" عن تصنيف نسب "تفشي الفساد" او "الشفافية" في نحو 159 دولة ورغم ان اسم المؤشر يدل علي كون ما يقدمه ليس ارقاما دقيقة عن حجم الظاهرة وانما مجرد الانطباعات العالمية ازاء الفساد مبنية علي دراسات اكاديمية وارقام وخبرات ميدانية الا فإنه يظل له قيمته من حيث كونه دلالة لها قيمتها حيث يبني المؤشر علي رأي جملة من المختصين ومن لديهم تجارب عملية في الدول المعنية التي شملتها دراسات من 10 مؤسسات وذلك بعد تحليل ردود اكثر من 50 الفاً من رجال الاعمال والاكاديميين والاعلاميين والمختصين كما أنه ليس هناك حتي الان ما يمكن ان يكون مصدرا دقيقا لحجم الفساد المالي والاداري في مختلف بلدان العالم الي يزيد بلا شك كثيرا عن المستويات التي سجلها التقرير. وفي تقرير مؤشر مدركات الفساد لعام 2005 الذي اعلنته المنظمة في الرابع من اكتوبر الحالي اتضح ان الفساد اصبح سائدا في 70 دولة من 159 دولة شملتها الدراسة وحسب قول بيتر آيجن عميد منظمة الشفافية الدولية فالفساد "عائق مهدد للتنمية والاستثمارات الاجنبية ومسبب اساسي للفقر وعائق امام تجاوزه ولم يظهر من بين الدول العربية في خانة الدول ذات النسب الاعلي في الشفافية سوي عمان ثم الامارات فقطر والبحرين، بينما جاءت مصر في المركز ال72 علي مؤشر الشفافية"!.. اضف الي ذلك رقما موجعا اخر هو حجم الرشاوي السنوية في العالم العربي الذي بلغ 300 مليار دولار سنويا وفقا لبيانات معهد البنك الدولي ما يقترب من نصف حجم الناتج المحلي الاجمالي للعالم العربي "770 مليارا" بل ان مايدخل جيوب المرتشين في بلداننا يمكن ان يوفر كما قال الدكتور ابراهيم قويدر المدير العام لمنظمة العمل العربية في حديث له مع قناة الجزيرة 20 مليون فرصة عمل للشباب العربي، كما كان من الممكن لهذا المبلغ ان يرفع مستوي دخل الفرد العربي الي 8 آلاف دولار في السنة. فإذا كان حجم البطالة في العالم العربي وفق ما توقع الدكتور قويدر نفسه في المنتدي الاقتصادي الاخير مائة مليون عاطل عربي؛ بما ينذر بأن تصل نسبة البطالة في عالمنا الي 40%؛ الا يشير هذا الي حجم الخطر الذي يمثله الفساد علي مجتمعاتنا اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا؟