يبدو أن فهم سوق البترول قد أصبح مسألة صعبة وأن الوصول إلي تنبؤات معقولة بشأن اتجاهاته صار مستحيلا.. وهذا في تقدير مجلة "نيوزويك" هو السبب في أن المحللين فوجئوا بهبوط أسعار البترول من الذروة "79 دولارا للبرميل" التي بلغتها يوم 8 أغسطس الماضي إلي أقل من 60 دولارا في هذه الأيام. وعلي حين فجأة صمت الذين كانوا يحذرون من حدوث ثورة بترولية وعادت منظمة الأوبك تتحدث عن خفض المعروض وهبطت أسعار أسهم شركات البترول بل أكثر من ذلك طفت علي السطح نظرية المؤامرة في تفسير ما يحدث.. فقد قيل علي سبيل المثال إن الجمهوريين في أمريكا يريدون خفض أسعار البنزين قبل انتخابات التجديد النصفي وإنهم لذلك سعوا ونجحوا في خفض أسعار البترول. ولذلك يحق لنا أن نتساءل عن حقيقة ما يحدث.. لقد شهدت السنوات القليلة الماضية حديثا واسعا متشائما عن قرب نفاد احتياطيات العالم البترولية وصاحب ذلك حالة من عدم الاستقرار في عدد من الدول البترولية مثل إيران ونيجيريا مع تصاعد الطلب علي البترول خاصة من الصين والهند وغيرهما من الأسواق الناشئة. وقد حظي هذا الحديث القاتم بنوع من القبول ولذلك أصبح سهلا القول بأن أسعار البترول ستفلت من قوانين الجاذبية الأرضية وتكسر كل الحواجز وتصل إلي 100 دولار للبرميل. وواقع الأمر أن الأزمة البترولية الحالية لا ترجع إلي تناقص مأساوي في الموارد البترولية العالمية.. كما أن شبح تصاعد الطلب الاَسيوي أقرب إلي الأسطورة لأن الصين تمتلك قدرة هائلة علي خفض استهلاكها من البترول.. كذلك فإن جمود العرض يرجع إلي انخفاض أسعار البترول في العقدين الأخيرين عوق عمليات البحث والاستكشاف لحفر اَبار جديدة في المناطق الغنية بالبترول وهذا أدي إلي نقص قوة الإنتاج الاحتياطية التي تعد عنصرا مهما للتعامل مع الأزمات لتصبح 2 3% فقط من جملة الاستهلاك العالمي. وقد أدت العناصر السابقة مجتمعة إلي أن أصبح سعر البترول أسيرا للأحداث السياسية والكوارث المناخية.. فارتفعت أسعاره في العامين الأخيرين ثم ها هي تعود إلي الانخفاض بعد أن أصبح واضحا أن نمو الاستهلاك يتباطأ في حين أن الإنتاج لايزال يتزايد.. لقد ارتفعت الاحتياطيات البترولية والاكتشافات الجديدة عما كان مفترضا من قبل.. وتحول موسم الأعاصير في خليج المكسيك من موسم عنيف إلي موسم معتدل، وثبت أن الحوادث البترولية مثل التسرب الذي حدث في حقول بريتش بتروليوم في ولاية ألاسكا ليس له سوي تأثير محدود وحتي المخاطر الجيوبوليتيكية قد هدأت بما في ذلك المواجهات بشأن ملف إيران النووي والحرب الإسرائيلية ضد لبنان. وتقول مجلة "نيوزويك" إن هذا كله قاد إلي الانخفاض الأخير في أسعار البترول ومع ذلك فإن ميل أسعار البترول إلي الارتفاع مرة أخري سيظل احتمالا قائما لمدة عام أو عامين اَخرين.. ولكن اعتبارا من عام 2010 أو 2012 سيكون المعروض من البترول أكبر من الطلب كما أن قوة الإنتاج الاحتياطية ستكون قد ارتفعت لتصبح ما بين 7 و10% من جملة الاستهلاك.. وهذا سيؤدي إلي انخفاض مطرد في أسعار البترول وحدوث استقرار في الأسواق يقلل من تأثير الشائعات الصغيرة عليها. ولتفسير ذلك نقول إن الأسباب التي أدت إلي أول أزمة بترولية في القرن الجديد ستكون قد زالت.. فمنذ عام 2002 زاد إنفاق الشركات والبلدان المنتجة الرئيسية علي الاستكشاف وتنمية الحقول وإنشاء معامل التكرير.. فنحن الاَن نعيش حالة انتعاش في الاستثمارات البترولية وإن كنا سنحتاج بعض الوقت لنجني ثمارها.. فتنمية الحقول تحتاج سنوات كما أن هناك نقصا حقيقيا حاليا في المعدات والعمالة المدربة. وتقول الأرقام إن استمرار معدلات الاستثمار الحالية في قطاع البترول سيؤدي إلي زيادة طاقة الإنتاج العالمي بنحو 12 15 مليون برميل يوميا من البترول الخام فيما بين عامي 2010 و2012 في حين أن الطلب لن يزيد إلا بمقدار 7 9 ملايين برميل يوميا في نفس الفترة المقارنة. وهذا يرجع إلي أن زيادة الأسعار ستؤدي إلي تباطؤ النمو في الطلب بأسرع مما سبق أن حدث بعد الأزمة البترولية الأولي عام 1973 حيث لم يكن العالم قد استعد بعد للتعامل مع مثل هذه الأزمات.. ومرة أخري تقول الأرقام إن الطلب زاد في عام 2003 بنسبة 4% ولكن نسبة زيادته في عامي 2004 و2005 لم تتجاوز ال 3.1% وتتوقع وكالة الطاقة الدولية ألا يزيد في العام الحالي إلا بنسبة 3.1% أيضا. أضف إلي ما تقدم أن زيادة الطلب الصيني فيها من الأسطورة أكثر مما فيها من الحقيقة لأسباب متعددة أهمها أولا أن الطلب الصيني رغم نموه السريع لا يتجاوز ال 8% من الطلب العالمي حتي الاَن، وثانيا أن نمو الطلب الصيني راح يتباطأ من 12% عام 2003 ثم 16% عام 2004 ليصبح 5.1% فقط عام 2005 ولن يتجاوز ال 1.6% هذا العام حسب أرقام وكالة الطاقة الدولية.. ثالثا إن التعطش الصيني والاَسيوي للبترول يغذيه ما تقدمه الحكومات من دعم لأسعار المنتجات البترولية، وهو الدعم الذي بدأت هذه الدول فعلا خفضه بما يعني خفض الاستهلاك في المستقبل. أما السبب الرابع فهو أن الصين تتجه إلي إحلال أنواع أخري من الطاقة محل البترول خاصة الطاقة النووية وطاقة الفحم خصوصا أن قطاع النقل الصيني لا يستهلك سوي 40% من جملة ما تستهلكه الصين من البترول مقابل 75% لقطاع النقل في بلد كالولايات المتحدة وهذا معناه أن الصين تستخدم البترول في قطاعات يمكنها استخدام أنواع أخري من الطاقة غير البترول. وخلاصة القول إن الاتجاه الراجح حتي الاَن هو أن تنخفض أسعار البترول بصفة مؤقتة مع بقاء احتمال عودتها إلي الارتفاع في غضون السنوات حتي نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين وبعدها سيكون الاتجاه الراجح هو أن تستقر أسعار البترول عند مستويات معقولة.. ولكن ينبغي ألا ننسي أن التنبؤ الدقيق بأسعار البترول يظل مسألة صعبة ولذلك فمن العقل ألا نركن تماما إلي اتجاه بعينه من الاتجاهات سالفة الذكر حيث إن المفاجاَت يمكن أن تظل واردة.