منذ أن بدأت كوارث قطارات السكك الحديدية المصرية وأنا أتوقع بين يوم وآخر تعالي الأصوات المطالبة بخصخصة هذا المرفق العريق فمصر التي كانت أول من عرف في الشرق هذه الوسيلة من وسائل المواصلات منذ عام ،1854 وثاني دولة في العالم تدخلها القطارات البخارية بعد بريطانيا، وامتدت منها بعد أكثر من نصف قرن للسودان، ثم إلي فلسطين في الربع الأول من القرن العشرين - يقولون إنها لم تعد قادرة علي صيانة هذا الوسيلة التي أصبحت وسيلة الانتقال الرئيسية للفقراء، بعدما استعاض عنها الأغنياء إما بطائراتهم الخاصة أو سياراتهم الفارهة، وفي الحقيقة، فإن تيناريو المعاد منذ منتصف سبعينيات القرن الفائت في كل مرة يتم فيها خصخصة قطاع من قطاعات الدولة التي تكون ناجحة لزمن طويل ثم تأخذ في التدهور سريع الخطي إلي أن ترتفع الدعاوي بضرورة خصخصتها - يضعف كثيرا من اعتقادنا إنها مجرد صدفة! مضرب للأمثال والمعروف أن القطارات في مصر بالذات كانت مثلا للانضباط الصارم لعهود طويلة كانت تحت سيطرة الدولة حتي إن آباءنا كانوا يطلقون علي الشخص صارم الاستقامة أنه "زي القطر"، أو أن التزامه بعهده أو مواعيده "زي قطر السكة الحديد لا يؤخر ثانية ولا يقدم ثانية عن ميعاده". وتطعلنا الأفلام السينمائية القديمة علي روعة ونظافة هذه القطارات بداية من عربات النوم الفاخرة المخصصة لعلية القوم، وحتي عربات الدرجة الثالثة ذات المقاعد الخشبية وتذكرة السفر زهيدة الثمن التي يتحملها فقراء البلاد، غير أنه يبدو أن دوام الحال من المحال فبعدما كانت مصر تمتلك مصانع النسيج ومصنعا لصناعة السيارات ومصانع تنتج الثلاجات وأفران الطهي والسخانات، ضمن قاعدة صناعية ضخمة شملت مصانع للحديد والصلب وللألومنيوم، كان لها سمعتها الممتازة والقوية قبل نصف قرن، وقبلها مصانع الغزل والنسيج التي كان يضرب بها المثل في الجودة والذوق، فوجئنا منذ منتصف السبعينيات بهذه المصانع وقد دب فيها الفساد وأصابها التدهور، بدلا من أن تسير في طريق التطور الذي كان ينبغي معه أن تزداد جودتها وقدرتها التنافسية، وإذا بمصانع الثلاجات الشهيرة يصيبها التدهور - رغم أنني أعرف سيدات من جيل أمي مازالت تعمل لديهن الثلاجة منذ أربعين عاما بحالتها وبنفس قوتها - وبدأ التدهور باختلال مواعيد تسليم هذه الثلاجات، وأفران الطهي، وصار علي المتزوجين حديثا في أواخر السبعينيات - مثلي - أن يحجزوا هذه الأغراض الضرورية لمنزل الزوجية قبل تسلمها بشهور، بل صار من اللازم في بعض الأحيان أن يستخدم العريس "الواسطة" حتي يضمن أن تصله الثلاجة أو فرن الطهي أو السخان قبل موعد زفافه، وشيئا فشيئا اختفت هذه المنتجات لتظهر في السوق منتجات أقل جودة ومتانة لكنها أكثر "أناقة"، استوردها من الخارج تجار عصر "الانفتاح" الجديد، الأمر الذي تكرر مع معظم المنتجات التي كانت قد شهدتها النهضة الصناعية الموءودة في مصر، فلم نعد نسمع عبارة "قلاع الصناعة" التي كانت تتردد مع إنشاء أو بدء انتاج أحد مرافق ما اصطلح علي تسميته بالصناعات الثقيلة، وقضت "هوجة" الخصخصة، حتي علي الصناعات القطنية المصرية الراقية التي كانت تحظي بسمعة عالمية منقطعة النظير، وبات المصريون أنفسهم يرتدون ملابس قطنية مصنوعة في الشرق أو الغرب. ولا يخفي علي أي شخص لديه أقل قدرة علي الملاحظة تكرار هذا السيناريو في كل مرة يراد فيها بيع أصل من أصول الدولة المصرية، ظهور تدهور في جودة المنتج، او اختفاؤه من الأسواق مع تعثر في مواعيد التسليم، مع دخول منتج مستورد للسوق ربما أقل جودة لكن أكثر أناقة وبسعر لا يزيد كثيرا مع سهولة في الحصول عليه، فيتحول المستهلك إلي المنتج المستورد ويتخلي عن المنتج الوطني الذي تزداد فيه صور التدهور وبدلا من المطالبة بمحاسبة المسئولين عن تدهور انتاج كان ناجحا ترتفع الاصوات المطالبة بخصخصة المنشأة وتمتلئ مقالات الصحف بهذه الدعاوي في حملة واسعة تنتهي بعرض المصنع أو المؤسسة للبيع، وتشريد عمالها الذين يري المشتري الجديد أنهم زائدون علي الحاجة، بعد منحهم مكافأة نهاية خدمة تتبخر في أيام او شهور معدودات، لتضاف آلاف جديدة إلي أعداد العاطلين ممن هم في سن العمل كل عام، ثم نشكو بعد ذلك من زيادة معدلات الجريمة والتطرف!! أقول هذا وقلبي ينزف علي قلعة مصرية عريقة أخري تعرضت للتخريب، ولا أتردد في أن أقول المتعمد، وبدلا من محاسبة المتسببين وملاحقتهم والعمل بجدية علي اعادتها بحزم إلي سابق عهدها، سترتفع الأصوات المطالبة بخصخصتها، لنعاود الكرة.. تشريد العاملين ورفع سعر الخدمة، علي نحو يثقل كاهل الفقراء الذين فاض بهم الكيل بالفعل، وعلي من يريد ان يكذبني ان يذكر لي مثلا واحدا لمنشأة صناعية مصرية واحدة تم خصخصتها واثبتت نجاحا خلال الثلاثين عاما الماضية! أليست هذه الفترة كافية للحكم علي التجربة؟ الا تكفي الزيادة المهولة في اعدادا العاطلين عن العمل واتساع الهوة الاجتماعية، وتدهور مستويات المعيشة، وزيادة معدلات التطرف والجريمة للبحث عن طريق آخر غير استسهال اللجوء إلي بيع كل ما تملكه مصر وفق عبارة "بيع يا لطفي" التي كنا نتهكم عليها في مسلسل "سنبل" الشهير؟ ألم يحن الأوان لتجربة طريق جديد للتنمية، باعتبار ان حرية السوق المطلقة ثبت فشل محاولة غرسها بالقوة في التربة المصرية؟ أليس من الضروري البحث عن صيغة جديدة، ولتكن عبر تشجيع نظام التعاونيات مثلا؟ أم أن الأمر يحتاج لمسئولين يكونون أكثر اهتماما بمصالح الناس؟ [email protected]