لم يتوقع كثيرون ان تحتجب "العالم اليوم" عن الصدور يوم امس ضمن فريق من الصحف المصرية المستقلة والمعارضة احتجاجا علي تعديلات قانون العقوبات المتعلقة بقضايا النشر.. فقد ظن البعض اننا جريدة اقتصادية تغطي شئون المال والاعمال ولا ناقة لنا في صراع وصفه كثيرون بانه سياسي بين النقابة ومجلس الشعب او بين الصحافة والدولة. والحقيقة ان قرارا بالاحتجاب لم يستغرق اتخاذه اكثر من دقيقة واحدة.. حين عرضت الأمر علي رئيس مجلس الادارة ورئيس التحرير الاستاذ عماد الدين اديب الذي وافق علي احتجاب العالم اليوم والزميلة نهضة مصر دون تفكير طويل.. فالقضية ليست نوع الصحيفة او طبيعتها- فالزنانزين لا تعرف الفرق بين صحفي اقتصادي وآخر سياسي - بقدر ما هو اعلان عن موقف واضح رافض لأي التفاف حول الغاء الحبس في قضايا النشر.. والذي سمي في الأيام الأخيرة بمسميات عديدة. وبرؤية هادئة متعقلة اظن ان مشروع القانون يحمل بعض الايجابيات التي لا يمكن تجاهلها مثل الغاء عقوبة الحبس في بعض الجرائم مثل "العيب"، سب الموظف العام،القذف في حق الافراد (303) كما تم الغاء عقوبة ايقاف الصحف.. لكن المشكلة هنا رفع التوقعات بوعد الرئيس منذ عامين بالغاء الحبس في قضايا النشر والذي يبدو انه لم يعجب الحكومة تماما فرأت ابقاء سيف الحبس مصلتا علي القضايا الأهم وفي مقدمتها تلك التي تتعرض للذمة المالية "وهو الامر الغالب في قضايا القذف". وهكذا قدمت الحكومة بيد وسلبت اضعافه باليد الاخري وظهرت للعالم كله وكأنها تخشي شيئا لا تعلمه او واقعا لا تريد كشفه او مستقبلا تريد حمايته. هذا ناهيك عن الحبس في قضايا اهانة المؤسسات العامة "الجيش والقضاء" فتصبح المؤسستان بذلك خارج نظام المحاسبة.. او قضايا اهانة رؤساء الدول - حاش لله. ولا أظن ان الصحافة المصرية وقفت موقفا فاصلا كالذي تشهده اليوم وذلك منذ قانون التسعينيات - موقفا تواجه فيه علي اختلاف مشاربها- تهديدا واضحا لقدرتها علي مواصلة رسالتها والقيام بدورها.. الا انها تواجه في الوقت نفسه موقف حساب النفس الذي لا يجب ان تغض الطرف عنه.. فبينما كسرت الصحافة في مصر كثيرا من الحواجز والخطوط الحمراء وكشفت العديد من قضايا الفساد.. وقادت حملات صادقة افضت الي اعادة حق لاصحابه او كشف اخطاء وخطايا.. فقد عرض بعضها في الوقت نفسه بأخرين.. واتهمت احيانا بغير دليل.. وتكون النتيجة في النهاية اعتذارا اوتصحيحا في ذيل الصفحة. وللأسف فنحن نواجه ونرفض هذه التعديلات في القانون الاخير ونحن نعيش واحدة من اسوأ عصورنا مهنيا اختلط فيها الرأي بالخبر، والاعلام بالاعلان علي مرأي ومسمع من الجميع.. وتدنت فيه قيمة الصحفي المادية والمعنوية فاندس بيننا كثيرون لا علاقة لهم بالمهنة او اصولها.. فيما عمل اخرون ابواقا لحساب البعض ومعاول هدم لصالح هذا أو ذاك .. ولم يفرق الامر بين صحافة قومية او مستقلة فانحدار المهنة اصابنا جميعا.. مواكبا لانحدار مستوي الثقافة والتعليم والتشغيل والقدرة علي قبول الاخر. فاذا كانت قضية الحبس امرا مرفوضا بلا جدال او تفاوض، فان حساب النفس امر ايضا لا يقبل المزايدة فيه ولذا فان اختراع العجلة غير مطلوب وتطبيق القوانين الدولية هو اقصر الطرق.. وتلك القوانين تنص علي تعويض مرتفع الثمن في قضايا السب والقذف اذا ما كان الخطأ مبيتا ومقصودا.. هنا يدرك الصحفي وصاحب الجريدة في الوقت نفسه ان الكلمة نور ومسئولية ويدرك المسئول ان سيف الحبس قد ولي زمنه، لان كلمة الحرية لا يمكن حبسها في زنزانة.. فالكلام الان يخرج من الزنازين ومن خلف الاسوار مباشرة الي الانترنت ليصبح اصحابه احيانا اشهر ممن يهللون للنظام صباح مساء. إن المجتمع يحتاج الي الصحافة.. والمواطن يحتاج الي قلم الكاتب ينير له الطريق لا يضلله.. والدولة تحتاج الي اقلام تواجهها بالحقيقة فلا تزيف ولا تهلل.. ولا اظن ان قانونا كهذا يمكنه ان يقدم تلك الصحافة.. فستظل العلاقة بين العسكر والمواطن.. علاقة خوف وتحد بدلا من علاقة رغبة مشتركة في الاصلاح..