الافتراضات أحياناً تقود إلي حقائق مهما كانت غرابتها وخصامها مع الواقع. لنفترض مثلاً أن إشارات المرور تعطلت وعساكر المرور قد اختفوا.. فما هو المتوقع؟ هذا الافتراض يقود إلي حقيقة وهي أن النتيجة الحتمية: فوضي وصدام وحوادث وضحايا. ولست أبالغ إذا قلت إن هذا حال مصر الآن. لم تعد هناك إشارات مرور في الشارع السياسي فصارت هناك فوضي وجعجعة وأصوات عالية وفضائيات تثرثر بشماتة. ومن المؤكد اننا أسأنا استخدام حرية التعبير فساد في الشارع السياسي لغط ومغالطات وصار الناس العاديون يتساءلون بقلق سؤالاً مخيفا: "هي البلد رايحة فين؟" ربما كان الجهاز التنفيذي بوزرائه يبتسمون ولكن رؤيتي المتواضعة تقول إنها ابتسامات مذيلة بالمرارة مما يرونه ويسمعونه. وربما كان الحزب الحاكم هادئ الأعصاب ولكنه في حقيقة الأمر "مخضوض" من هذا "الحراك السياسي" الذي تتصدره التجاوزات. وربما كان المصري البسيط رجل الشارع مشغولا برزقه، باحثا عن لقمة للأفواه المفتوحة.. أفواه أولاده، ولكنه يشعر بأن المسائل "هايصة" دون أن يعرف حقيقة هذه الهيصة ولا تفاصيلها. لكن ابتسامة الرضا، اختفت وحلت محلها تكشيرة، يفسرها علماء الاجتماع بأنها "خوف من مجهول غير محدد" وليس أمامه إلا دعاء واحد "استرها يارب". لا أحد مهموم بهذه الفوضي الضاربة اطنابها في المجتمع إلا جهاز أمن مصر. فهو المكلف بضبط الإيقاع ومنع الصدام وضبط المندسين أعداء الحياة الذين يودون شعللة المواقف وتسخينها لتصل إلي ذروة اللهب. وربما كان الصحفيون يعرفون بحكم معرفتهم للهيئات الثائرة وجهاً من وجوه الحقيقة، لأن الفوضي مغامرة غير محسوبة بأي قياسات ويلوكون كثيراً عبارة "الحراك السياسي" والصحف المعارضة والمستقلة ووجدت في الفوضي مادة شهية لقرائها، فراحت تحكي كشهرزاد المباح وغير المباح. والتزمت الصحف القومية بوجه التفاؤل وسط العتمة. ولكن بعض الكتاب للأمانة راحوا يكتبون بقصد تفريخ الاحتقان من شحنة الغضب المكتوم ورأي الناس ان هذه المحاولات قد تؤدي إلي تهدئة الجو المسمم. ولكن سيارات الأمن المركزي الرابضة في الشوارع الجانبية في قلب البلد، جعل الناس يرون سحبا غامقة وربما سوداء في السماء السياسي. بعض المثقفين الكبار يغضبهم ما يجري أمامهم من انفلات ولكن ليس لهم آليات لوقف هذا الانفلات. الأحزاب الورقية تراقب ولا قيمة لها، حيث لا رصيد لها في الشارع. الصفوة المتمثلة في أساتذة الجامعات صوتها "مبحوح" لأسباب شتي فلا يصل صوتها لأحد وتظل مجرد صدي في الفراغ. وهناك علامات استفهام تفرض نفسها: 1- أليس في الأمة عقلاء يحاصرون هذه الفوضي ولهم كلمة نافذة؟ 2- هل لتلك الطمأنينة الكاذبة عند البعض من أسانيد وحجج؟ 3- هل هذه مصر التي صارت شوارعها مزروعة بالأمن المركزي؟ 4- هل هذا "مناخ" للتنمية؟ كيف تلومون الشباب علي إنفلاتهم والحال هكذا؟ 5- هل أنا متشائم من هذه الفوضي ويجب أن اتفاءل وأذاكر في كتب الديمقراطية تجارب العالم المختلفة؟ 6- هل مجلس الشعب الذي يمثل الأمة.. يري الفوضي ويتجاهلها ويثير قضية السحابة السوداء دون إحاطة بأن هناك سحابة سوداء في الطريق وخطرها أكبر من سحابات البيئة؟ 7- من يمثل صوت العقل في مصر بشرط أن يدرك حجم هذه الفوضي دون "تهوين لها أو تهويل"؟ وإذا كان القارئ قد احتار معي، ويطلب مني رأيًا، فأنا أقول أن رئيس مصر الذي بدا حكمه بالإفراج عن المعتقلين في خريف الغضب.. كبير البلد يطالبه بان يجلس مع القضاة بدون تنفيذيين ولا أحزاب ولا أجهزة إعلام يتحدث معهم حديث قائد يعتز بهم ويؤمن أن قضاء مصر العادل مصدر فخره. يفتحون له قلوبهم ويتناقشون بود ليصلوا إلي شاطئ. ونطالبه بان يجلس مع الصحفيين -في نقابتهم- بدون تنفيذيين أو أحزاب أو عدسات أو ميكروفونات حديث قائد لأصحاب الأقلام ويتناقشوا بود في كل قضاياهم وعلي رأسها الوعد الرئاسي بعدم حبس الصحفي في أمر التعبير. والهدف الوصول إلي شاطئ. إن مصر تطلب منا أن ننتبه لها والعالم كله يتقدم حتي بعض الجيران. انه اقتراح للرئيس الأب مبارك من قلم مصري "خدم معه" سنوات وسنوات وإذا كنت أطالب أن يكون لقاءات مبارك بالقضاة والصحفيين بدون تنفيذيين أو أحزاب أو عدسات فذلك لاني اريد لقاء أبويا وأخويا مصلحته مصر أولا وأخير إنني أكاد أسمع انينها تقول بصوتها من مخنوق "اعملوا حاجة، وحافظوا علي مصر، ده البديل مخيف يا ولادي".