أستسمحك عزيزي القارئ أن أكتب اليوم عن منطقة خاصة جدا في وجداني، وان تشاركني احزاني في فقيدي مثلما شاركني في ذلك المئات من "الغلابة" الذين عرفوه. إنه أبي الذي لم يلدني، لكنني تعلمت منه فلسفة الحياة، مثلما تعلم منه آخرون لا حصر لهم.. فلسفة لا تقدمها المدارس والجامعات، ولا الكتب والجرائد، بل حكمة الحياة بواقعيتها الشديدة الدنيوية وتأملاتها الاخروية. علمني الكثير.. علمني مفهوما جديدا للصداقة بين الرجل والمرأة، بين الأب والابنة، فكان الصديق في زمن عزت فيه هذه المعاني، لا يناديني إلا ب"صاحبتي" ويرفع الحرج عن مشاعر الحياء في داخلي للحديث في جميع الأمور حتي تلك الخاصة جدا، فأجده تارة طبيبا نفسيا يستمع وينصت بتمعن فيمتص ما يغضبني ويثيرني، وأجده تارة اخري مستشارا اقتصاديا وماليا يوجهني إلي القرار السليم بخبرة رجل البنوك الذي قضي فيها اربعة عقود متفانيا لا يعرف الضجر. معه لم أكن احتاج الي صديقة أو زميلة أحكي لها أسراري، ولا حتي أم أطلعها علي تفاصيل حياتي العاطفية والزوجية.. كانت لديه الحلول جاهزة واضحة وضوح الشمس، لا يعتريه أي تردد وهو يقيّم الامور أو يحكم عليها او يتخذ قرارات بشأنها منصبه المرموق في بنك القاهرة ووضعيته الاجتماعية الرفيعة في عائلته الكبيرة بالشرقية وثروته الممتدة.. لم تؤثر لحظة علي سلوكه.. بل كان التواضع هو الصفة الملازمة له. كنت أحب - كما يحب - أن اصطحبه الي سوق السمك في مدينة الاسماعيلية وكنا كلما نمر علي بائعات مفترشات الأرض يجمعن رزقهن من بيع الفجل والجرجير والقوطة يقولك سلمي عليهن.. هذه عمتك فلانة.. وتلك عمتك علانة.. كنت استغرب من عاطفته شديدة الدفء مع هؤلاء السيدات "الغلابة"، وسألته ذات مرة: يا بابا، حرام عليك.. كل واحدة في الشارع تبقي عمتي.. وتنحني لها وتسلم عليها وتسألها عن عيالها بالاسم.. هل أنت متبني جمهورية مصر العربية بالكامل؟! أجاب مبتسما وواثقا: أنا زعيم الغلابة يا بنت، كلنا أولاد تسعة! وبدأت تتفتح أمامي دُنًي جميلة في مملكة الغلابة التي كان زعيما لها.. منهم أعرف حال البلد، ومنهم أستمد الثقة بأني أسير في الطريق الصحيح، موضوعاتي وكتاباتي منهم واليهم، افرح بتعليقاتهم، واسعد بأي مساحة من الدفء ادخلها في قلوب البسطاء.. وكنت اتصل به لأروي له "فتوحاتي".. لكي أقول له فقط إني تلميذة نجيبة أسير علي خطاه في تلك المملكة العبقرية التي ضلت الاحزاب السياسية طريقها اليها! علمني ألا آخذ الناس بالشبهات حتي لو حكم عليهم الآخرون بالإدانة.. دائما يردد: حياة الناس أسرار!! ويميل إلي التماس الأعذار لهم، ويكون القلب الكبير "الاخضر" لمن يلجأ اليه.. يقدم النصيحة واكثر منها ولا يرد سائلا. علمني الزهد.. وألا أنظر لما بين يدي الآخرين، وأسأل الله أن ينزل بركته علي ما في يدي وما أملك فقط. وأن أحمده علي الصحة وعلي "الستر" وأن يكون رصيدي في الخير أكبر من رصيدي في البنك، لأن الرصيد لدي الناس يزداد ويتضاعف أما المال فإلي زوال! هناك أناس يعيشون طويلا بيننا فلا نشعر بهم لا أحياء، ولا أموات، أما "عم عبدالله" فلو صادفته مرة فلن تنساه أبدا لأن معدنه من الماس الحر.. فما بالك بمن كان لهم أبا وأخا وصديقا، بل ومؤسسة كاملة للتضامن الاجتماعي، بلا موظفين، لكنه كان وزيرها وخادمها في نفس اللحظة لا يكل ولا يمل. رحم الله والدي الذي كان خير سند لي، خفف غربتي وافتقادي للأهل، ومنحني أرضا ووطنا، وعلمني أن الوطن لابد أن اعتز به وبناسه وأخدمهم حتي يعتز بي.. رزقني الله الصبر فيه!