أليس غريبا ومثيرا أن تتوافق ذكري استشهاد المناضل الثوري العالمي تشي جيفارا في منطقة جبلية في بوليفيا مع انتخابات الفومورال رئيس بوليفيا الجديد الذي يعتبر نفسه أحد تلامذه مدرسة تشيي جيفارا. فمنذ أكثر من 37 عاما كان تشيي جيفارا مع مجموعة من الشباب الثائر في بوليفيا يناضل من أجل اسقاط النظام الذي كان قائما ويعمل في تجارة المخدرات تحت رعاية وحماية الولاياتالمتحدةالأمريكية وحماية المخابرات سي أي إيه الذي كان يفرض سيطرته وهيمنته علي كل دول أمريكا الجنوبية في تحالف مع الاحتكارات الامريكية التي كانت تسيطر علي كل القدرات الاقتصادية لهذه القارة الجنوبية الذي شاء حظها العاثر ان تكون فناء خلفيا للولايات المتحدة أو الأخ الأكبر الشرس في الشمال. وكان تشيي جيفارا قد انضم إلي فيدل كاسترو في جبال سيراماتسيرا في كوبا واستطاع الاثنان اسقاط نظام حكم الدكتاتور سيموزا الذي حول كوبا إلي ماخور وملهي لرجال المال والسلطة في الشمال والذين يحتلون قاعدة جوانتنامو، أصبح جيفارا نائبا لكاسترو لعدة سنوات ولكن الطبيب الأجنبي الأصل الذي ترك ثروة أبيه المليونير وانضم إلي الباحثين عن العدل والعدالة الاجتماعية سرعان ما ترك منصب نائب الرئيس كاسترو وانضم إلي الجماعات الثورية في بوليفيا يناضل معهم ضد رؤساء جمهويات الموز مثلما كان يطلق عليها. وفي مثل تلك الأيام منذ أكثر من ثلاثة عقود ونتيجة وشاية مفضوحة ألقت المخابرات المركزية القبض علي تشي جيفارا ثم قاموا باعدامه في نفس اليوم وفي نفس الموقع بعد مشاورات مع واشنطن، هكذا كتب الواشي الذي أوقع بجيفارا والذي انتحر بعد ذلك. أيامها خرجت صرخة ألم بين شعوب العالم كله في قطاعات واسعة من الشعب الأمريكي، حزنا علي هذا الثائر الرومانسي ابن المليونيرات والذي ترك المال وترك منصب نائب رئيس الجمهورية ليقاتل ضد السيطرة والهيمنة والتسلط من أجل تحرير الانسان ليس في أمريكا اللاتينية فقط بل وفي العالم كله، وفي مصر كتب ميخائيل رومان مسرحيته الشهيرة (ليلة مصرع جيفارا) بينما كتب أحمد فؤاد نجم قصيدته الجميلة الموحية (جيفارا مات). اليوم وبعد أكثر من 37 عاما تؤكد بوليفيا بل وامريكا اللاتينية كلها أن جيفارا لم يمت خاصة بعد انضمام بوليفيا ورئيسها المنتخب الفومورال إلي مجموعة الدول اليسارية في أمريكا اللاتينية والتي اصبحت تمثل ثلاثة أرباع السكان (350 مليونا) وذلك بعد توالي الانتصار الجيفاري ومن خلال انتخابات ديمقراطية حرة في البرازيل والأرجنتين والاكوادور وفنزويلا وتشيلي واورجواي هذا بالطبع اضافة إلي الجزيرة المتمردة كوبا وزعيمها فيدل كاسترو.. كما أن هناك احتمالا كبيرا في أن يعود دانييل اورتيجا زعيم الساندستا إلي رئاسة نيكاراجوا في الانتخابات القادمة. ويقول بترودوباس أن زيارة لمكاتب لولاسليفيا رئيس البرازيل وكيرشنز رئيس الأرجنتين ومل باشليف رئيسة تشيلي، وكانكوفر رئيس اورجواي والفورمورال رئيس بوليفيا، وهوجو شافيز رئيس فنزويلا لن يخطيء أمرين أولهما وجود صورة كبيرة لتشي جيفارا ثم شعارات يسارية واضحة عن العدالة الاجتماعية والديمقراطية الشعبية. ويقول دوباسي مدير معهد الدراسات المتطورة في سان باولو أن هذه القيادات اليسارية الجديدة الحاكمة في دول أمريكا اللاتينية نشأت وترعرعت في احضان الجيفارية، وان كانت تستخدم حاليا أساليب مختلفة هي أقرب إلي أساليب الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية مع قدر ليس بالقليل من البرجماتية السياسية في محاولة لتحقيق العدالة الاجتماعية من خلال التعامل الايجابي مع حقائق المجتمع الدولي الراهن. الغريب في الأمر أن هذا الاتجاه الذي أدي إلي سيطرة الاحزاب والنظم اليسارية في الغالبية الغالبة لدول أمريكا اللاتينية في السنوات العشر الماضية يأتي في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي والنظم الاشتراكية في أوروبا الشرقية وانفراط عقد الثنائية القطبية وتفرد الولاياتالمتحدة كأكبر قوة عسكرية واقتصادية وانفرادها بالسيطرة علي السقف العالمي. الاغرب والمدهش أن أمريكا اللاتينية والتي تعتبر الفناء الخلفي للولايات المتحدة الأخ الأكبر الشرس الرابض في الشمال يجري فيها هذا التحول اليساري بينما كان هناك شبه اجماع من المراقبين والمحللين السياسيين ان انهيار الاتحاد السوفيتي سيؤدي إلي احكام العزلة علي كوبا وكاسترو وان قضية اسقاط النظام المتمرد في تلك الجزيرة التي تبعد 80 ميلا فقط من شواطئ ميامي مسألة وشيكة خاصة وأن الولاياتالمتحدة تفرض حصارا أو مقاطعة اقتصادية وغير اقتصادية عليها. لقد قامت الولاياتالمتحدة خلال العقود السابقة في السبعينيات والثمانينيات إلي تصفية أي مراكز أو بؤر يسارية في فنائها الداخلي بكل الوسائل والسبل بما في ذلك التخطيط للانقلاب الدموي ضد نظام الرئيس المنتخب سلفادور الليندي في تشيلي سنة 1973 والذي راح ضحيته أكثر من نصف مليون شخص. وفي تلك الأيام تم اغتيال جيفارا واغتيال اللندي ومحاصرة الحركات الثورية واليسارية في أمريكا اللاتينية، كما حاصرت الولاياتالمتحدة نظام الساندستا في نيكاراجوا ثم اسقاط النظام من خلال الصفوة العسكرية في تلك البلدان. ولكن رياح التغيير في التسعينيات التي قوضت الكثير من النظم الاشتراكية في أوروبا، كانت هي نفسها تجري تغييرا آخر في اتجاه آخر في نصف الكرة الآخر، ويسقط الكثير من النظم الموالية للولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية وتصفية النظم الديكتاتورية والعسكرية والقضاء نهائيا علي مرحلة جمهوريات الموز. ويبدو واضحا أن القيادات اليسارية الجديدة والحاكمة في أمريكا اللاتينية قد تعلمت الدرس جيداً، فهي حريصة بشكل واضح علي المسار الديمقراطي وتأكيده، ومن ناحية أخري اتباع سياسات عملية مثل تعديل الكثير من القوانين التي منحتها الولاياتالمتحدة الشروط الجائزة لمنظمة التجارة العالمية ومؤسسات الاقراض العالمي - البنك الدولي وصندوق التنمية - الواقعان تحت السيطرة المباشرة للولايات المتحدة ولقد بان ذلك بوضوح في اجتماع منظمة الوحدة الامريكية الأخير حيث رفضت دول أمريكا اللاتينية المقترحات التي حملها الرئيس جورج بوش بشأن توسيع اتفاقية التجارة الحرة "النافتا" والتي تضم كندا والمكسيك اضافة إلي الولاياتالمتحدة لتشمل دول أمريكا اللاتينية. ويقول ماربا لاجوس رئيس أكبر مركز لدراسات اتجاه الرأي العام في أمريكا اللاتينية ان دول أمريكا اللاتينية تطرح برنامجا بديلا عن سياسة المواءمة التي حاول ان يفرضها البنك الدولي وذلك بعد الدمار الاقتصادي الذي عانت من الجماهير من سياسات الانفتاح بلا حدود والاصلاح علي الطريقة الامريكية الأمر الذي أدي إلي ازدياد البطالة والتضخم والفقر. ويقوم البرنامج البديل لتلك الدول علي تأكيد دور الدولة من جديد للاشراف علي بعض المؤسسات الحيوية وتضييق الهوة بين الغالبية الفقيرة والمعدمة والشرائح الغنية وزيادة ضريبة الدخل وتعديل بعض القوانين الجائرة الخاصة بالتجارة الدولية. تري هل ينجح هذا البرنامج الطموح لتلك الدول الغنية بعد أن احتلت صورة تشي جيفارا المكتب الرئيسي لرؤسائها دعنا نأمل!