استنتاجات نظرية كثيرة انتهت إلي اعتبار الديمقراطية وسيلة ضرورية للخروج من دائرة التخلف.. وقد أثبتت التجارب السياسية الحديثة والمعاصرة صدق هذا القول، إذ تم التدليل علي قدرة الاختيار الديمقراطي في احداث القطيعة مع كل ما هو مظلم ومفلس.. ومع ذلك فعالمنا العربي ظل مصراً علي معاندة ورفض هذا الاختيار لأسباب ثقافية وأخري سياسية من حيث إنه لا يخدم مصالح بعض القوي الاجتماعية الحاضنة للتخلف ولأسباب القهر، إذ تقاوم بلا هوادة عملية العقلنة والتحديث كاختيار استراتيجي. وترسيم الممارسة الديمقراطية علي طول الوطن العربي يشترط من بين ما يشترط انسحاب المؤسسة العسكرية من دائرة الفعل السياسي وبالتالي تحديد مجال تدخل تلك المؤسسة. إن الأمر هنا يقتضي رسم الممارسة السياسية بصبغة عقلانية قانونية بدل الطابع الأمني الكابح لروح الخلق والابداع في الإنسان العربي. إن عملية البناء الديمقراطي تفرض علي تلك المؤسسة ومعها مختلف الاجهزة الأمنية التخلي عن منطق الوصاية الذي ينظم علاقاتها بالمجتمع واستبداله بمنطق ذي طبيعة مؤسساتية محكومة بضوابط قانونية.. فمن شأن التنافر والتناحر الذي ظل يحكم العلاقة بينهما أن يفضي إلي عزل المؤسسة العسكرية أو التنكر لباقي اللحظات الحاسمة من تاريخ العالم العربي وهو ما يعني بالضرورة الوقوع في شرك الهزيمة لحظة الصراع مع الآخر والأمثلة كثيرة هنا. فالاستراتيجية العسكرية والأمنية ينبغي أن تكون تعبيراً عن تطلعات المواطن وترجمة لها، من حيث إنها تطمح إلي صيانة انسانيته وتثبيت كرامته بدل أن تكون عامل قهر وتطويع له، ولا تجعل منه خادماً لرغبتها الهيمنية فيكون هذا الأمر مقدمة لاستعادة روح البناء الكامنة في المواطن العربي ومن ثم التخلي عن منطق العدمية والاستسلام. ومع كل هذا لا يمكن اختزال التدبير العسكري للشأن العام في صورة الاستبداد والتسلط فقد كانت التجربة الناصرية بمصر وغيرها من التجارب عنواناً للطموح العربي في التحرر والانعتاق من قبضة التخلف، إلا أن الحضور اللافت والقوي للأجهزة الأمنية كان بمثابة الحاجز والمانع الذي غيب الديمقراطية عن سماء العروبة. وما يجب الاشارة إليه هنا هو أن هذا الحضور ظهر بشكلين أو وفق نموذجين متباينين، إذ تجلت هيمنة الاجهزة في كثير من الاقطار العربية واتخذت حضوراً فعلياً عبر التدبير المباشر لشئون الحكم والتحكم الواضح في الحقل السياسي خطاباً وممارسة. في حين اتخذت في أقطار أخري حضوراً خفياً وغير معلن وغير مباشر للشأن العام دون الحضور المكثف في الحياة السياسية. وقد كان من نتائج هذا الغياب المزعوم الحصول علي جملة من الامتيازات والفوائد كطريقة لتقاسم السلطة أو ابعاد المؤسسة العسكرية والاجهزة الأمنية عن الممارسة السياسية مما ساهم في تكريس النفوذ الاقتصادي والمالي لتلك القوي العسكرية والأمنية. وحتي لا نجانب الصواب فقد كان للضغوط الخارجية وللتحرشات الاجنبية الدور الكبير في تبرير مثل هذه الهيمنة ومنحها وجه الاستمرار والدوام. إذ فرضت السياسات الخارجية لكثير من الدول الوجود المكثف للمؤسسة العسكرية في مختلف نواحي الحياة بدعوي حماية الوطن ومقدساته، لذلك فإن المسار الديمقراطي ينطلق من ضرورة زوال العدوان الخارجي لتنتفي كل المبررات والمسوغات التي تشير إلي عملية العسكرية التي تعرفها الاقطار العربية. إن اتزان وتوازن العلاقات الدولية واحتكامها لسلطة القانون كفيل بتحجيم هذا الدور والحد من اختصاصاته ليفتح الأفق العربي علي الديمقراطية والحداثة.