«القصيدة متعة مقلقة» علي حسب تعبير «هنري دولوي»، والقصيدة عند «حلمي سالم» متعة وحياة وقلق، واصطياد للعبارة من بحر متلاطم الأمواج، وضرب لحربة الشعر في صحراء غير مأهولة. الشعر عنده يمتلك روح المفاجأة قدر امتلاكه للمفارقة، والكشف عن المسكوت عنه.منذ قصيدته الأولي أدرك أن الحياة الحقيقية هي ما يؤسسه الشعراء فأخلص للشعر وأجب الحياة فأعطته - حتي الآن - عشرين ديوانا، كل واحد منها عالم مختلف ورؤية جديدة، وتجربة مختلفة، فهو عازف صنع أوتاره بيديه، يشبه - كثيرا - ذلك العازف الذي وصفه في إحدي قصائد ديوانه «الشغاف والمريمات» قائلا: العازف يتوحد في وتره يتداخل في الموسيقي متئدا مخترقا يسكن نبرته ليحط الطير علي كم قميصي وهو أيضا ميدان متسع بالرؤية والرؤيا: «لم يك يعرف أن دمائي في رؤياي/ أن ثقوب حياتي حدقات تبصر لتموت/ وخطاي/ مقل تتملي/ رقرقة الملكوت». وهو أيضا الصارخ في أرض القصيدة: «الأمكنة استشرت في شريان قتيلي/ وأنا من تحت الأبنية همست: الأمكنة هنيهاتي والطرقات سمائي». يلبس - دائما - ثوب المجرّب دون حساب للتجربة أو النتائج، مغامر شرس، شراسة اللغة التي تنتجها التجربة، مجازف إلي حد الذوبان في المجازفة، عايش حروبا عدة علي المستوي الشخصي وعلي المستوي العام، وفي كل حرب يخرج فائزا بديوان شعر، ربما لتضميد جروح عدة ألمت بالروح، وربما احتفاء بكل ما تجود به الحياة حتي ولو كان قاسيا. أرّخ لحصار بيروت بديوانه «سيرة بيروت» وكتابه المهم «ثقافة تحت الحصار»، وقد عايش هذه التجربة الأليمة حين كان يعمل صحفيا في جرائد المقاومة التي كانت تصدر تحت القصف الإسرائيلي لمدينة بيروت في بداية الثمانينيات. وبالمثل أرّخ للانتفاضة الفلسطينية الثانية بديوانه «تحيات الحجر الكريم»، وهذان الديوانان إن لم يكونا من أهم أعماله فإنهما يدلان علي موقفه تجاه القضايا الإنسانية، وحين سافر في منتصف التسعينيات إلي أمريكا مع أسرته وأقام - هناك - لعدة شهور كتب ديوانه «يوجد هنا عميان» واصفا التشيؤ الذي أتي علي الأخضر واليابس في الروح الإنسانية بفعل ماكينة الحضارة الأمريكية المزعومة، حيث يتحول البشر إلي مجرد ترس في آلة اجتماعية لا تؤمن إلا بالمادة. وحين سافر إلي باريس عام 2002 وأقام هناك لأكثر من عام كتب ديوان «الغرام المسلح» وجاء النشيد: حقلي القمح هنا يشبه حقل القمح بغيطان الراهب والراهب هي القرية التي ولد فيها حلمي سالم في يونيو 1951 وهي تابعة لمركز شبين الكوم بمحافظة المنوفية، ويصل الشاعر إلي الفرق الجوهري بين الحضارتين الفرنسية والمصرية «وهل ثم فرق في العذاب الإنساني» قائلا: لكن الفرق الفاصل بينهما أن القمح هنا مروي بدم الأذن اليسري للسيد فان جوخ وقمح بلادي مروي بدم فلاحي كمشيش فهل أنت الحائر بين القمحين وحين مرت به أزمة «جلطة المخ» في منتصف عام 2005 كتب ديوان «مدائح جلطة المخ» وهو ديوان يقطر بالمعاناة المغلفة بحس فلسفي عميق، يتجاوز لحظة الألم، ليستشرف فضاءات إنسانية متعددة. وهذه هي إحدي أهم خصائص التجربة الشعرية التي تميز الخطاب الشعري لحلمي سالم، أنه شاعر متجاوز، عابر للحظة، دون أن يترك أبعادها، ودون - أيضا - أن يتركها تتملكه فلا يقع في فخ الرومانسية المجانية، بل يمتلك علي حد تعبير الشاعر البحريني قاسم حداد «حيوية وقدرة علي التحول والانتقال في لغته الشعرية من بنية النشيد الرومانسي الغامر إلي بنية السرد الفجائعي الجارح، وفي هذه المسافة الفنية والزمنية التي استغرقتها كتابته، سوف تحافظ لغته الشعرية علي حس السخرية السوداء التي لن يتخلي عنها في مجمل كتبه، وهي الخاصية التي ستنقذ كتابته دائما من رتابة تعثرت بها الأصوات الأخري». وما ألمح له «قاسم حداد» في عبارته السابقة يأخذنا للحديث عن أهم الخصائص الفنية في شعر حلمي سالم: وأولها: التمرد علي فكرة الشكل والمضمون فمساحة القصيدة عنده صالحة لبذور شتي، وهي غير مؤطرة - أيضا - بأي إطار سوي ما تفرضه الحالة الفنية للنص، وهذا ما يجعل تجربته قوسا مفتوحا، يصطفي أشكالا متعددة من الكتابة. ثانيها: المزج بين شراسة الواقع وفضاءات المتخيل، فدائما هناك صوتان متقابلان، في النص، يتناوبان في الحوار، وربما تكون تلك الخاصية هي التي تجعل من القصيدة لديه نفسا شعريا واحدا ممتدا، يعبر عن قضية جدلية اجتماعية أو سياسية أو حتي شخصية تنطلق من أفقها الجمالي إلي الآفاق الأخري ذات الصلة بالواقع. ثالثها: التناص مع التراث وهي خاصية يشترك فيها كثير من شعراء السبعينيات، وقد أفردت لهذه الخاصية الشاعرة د. فاطمة قنديل رسالتها للدكتوراة والتي صدرت بعد ذلك في كتاب عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، إلا أن «التناص» عند حلمي سالم متعدد فهناك التناص مع التراث الصوفي، وتناص مع الشعر العربي القديم، وتناص مع التراث الثقافي العالمي، مما يعطي للشعر مرونة من تعدد روافده. وفي ديوان «حمامة علي بنت جبيل» نجد قصائد عن «فريدة النقاش» وابنته «رنيم» وحفيدته «جمانة»، أما قصيدته «حديث سائق الجرافة» فمهداه إلي المناضلة الأمريكية «راشيل كوري» التي دهستها جرافة إسرائيلية في الأرض المحتلة أثناء وجودها ضمن وفد حقوقي، وفي ديوانه «ارفع رأسك عالية» نجد قصيدة «سالي زهران»، بالإضافة إلي مجموعة من قصائده التي لم تنشر في ديوان حتي الآن ومنها «وصايا أنس» عن الطفل أنس أحد ضحايا حادث استاد بورسعيد، وقصيدة عن الناقد الراحل «رجاء النقاش»، وأخري عن «جيفارا» وغيرها. أما ديوانه البديع «الغرام المسلح» فتتخلله مجموعة من الصور والبورتريهات الشعرية عند رواد التنوير أمثال طه حسين ومحمد عبده ورفاعة الطهطاوي. حلمي سالم من فصيلة الحفارين في أرض اللغة لا فرق - علي مائدة التشريح الشعري - بين لفظ هجين ومستغرب ولفظ دارج، الفرق الوحيد يكمن في وضعية هذا اللفظ داخل السياق الشعري الموار والملتهب بدلالات شاسعة. وعلي ما أعتقد فاتساع رقعة القصيدة عند حلمي سالم توازي اتساع رحابته الإنسانية، فعلي المستوي الشخصي وعلي المستوي الشعري قد تتفق أو تختلف معه، لكنك لا تملك إلا أن تحبه، لأن الحب يكمن في الاختلاف، وهذا أحد أسرار صلابته وقدرته علي تجاوز المحن الكثيرة التي مر بها، التي برغمها فإن شرفات المحبة لم تزل مفتوحة علي مصاريعها.