مساء الخميس الماضي، كنت اتنقل بين القنوات الفضائية بعيدا عن الانتخابات المصرية في هدنة قصيرة فوجدت اسم نجيب محفوظ وصورته يملأن فضائية «روسيا اليوم» الناطقة بالعربية، كانت نشرة أخبار الثقافة والفن بالفضائية المذكورة تحتفي بمئوية محفوظ، وبالأدب العربي كله من خلاله بحوار مهم مع السيدة فاليريا كيرتيشينكا المستشرقة والمترجمة للادب العربي ولذلك جاء حوارها مع (انيسة مراد) مقدمة البرنامج ممتعا وسهلا حين قالت إن الروس عرفوا الادباء العرب ابتداء من عام 1957 من خلال ترجمة روايتي (يوميات نائب في الأرياف) لتوفيق الحكيم و(الأيام) لطه حسين، وعرفوا محفوظ عام 1975 حين ترجموا له (المرايا) ونفدت الطبعة (50 ألف نسخة)، ثم قدموا له (حكايات حارتنا) عام 1990 في 75 ألف نسخة ، وتوالت رواياته التي أصبح القارئ الروسي يبحث عنها لدرجة أن (اللص والكلاب) طبعت ثلاث طبعات، أما (الطريق) فقد صدرت منها أربع طبعات، وقالت فاليريا أيضا أن صعود الأدب العربي في روسيا في هذه المرحلة يتواكب مع عرض الأفلام المصرية بشكل منتظم في عدد من دور العرض السوفيتية، وأن الاهتمام باللغة العربية والشرق العربي أيضا صنع جمهورا للأدب والسينما المصريين، وكان المستعربون والمدرسون والباحثون بالطبع في طليعة هذا الجمهور، وتتذكر أن أنجح الأفلام عندهم المأخوذة عن محفوظ كان (ميرامار) أما فيلم (الزوجة الثالثة عشرة) لشادية ورشدي اباظة واخراج فطين عبد الوهاب، فقد كان أنجح الأفلام المصرية واكثرها شعبية في روسيا حتي انتهي ذلك العهد ( تقصد سقوط الاتحاد السوفيتي) واليوم تستعيد الثقافة العربية أهميتها بالتدريج في (روسيا) الدولة وليس الامبراطورية. ولكن عدد النسخ الذي يطبع من كل المصنفات الأدبية قليل بالمقارنة مع ما كان يطبع سابقا، وتفسر السيدة فاليريا هذا لسببين الأول هو خروج الجمهوريات السوفيتية من فلك الاتحاد واستقلالها، والثاني هو وسائل الإعلام والقراءة الالكترونية التي استقطبت ملايين القراء وبالتالي أصبحت دور النشر تتردد كثيرا حين يتعلق الأمر بترجمة الآداب الأخري وهو ما أثر علي آخر ترجمات نجيب محفوظ إلي الروسية. روايته الأخيرة (أحلام فترة النقاهة) التي تمت ترجتها، لكنها بصدد البحث عن ناشر متفائل بالادب الورقي حتي الآن.. أما أكثر فقرات هذا الحوار أهمية في رأيي فهو ما قالته السيدة المترجمة وهو أن مناهج التدريس في روسيا تستعين بمقاطع من أدب نجيب محفوظ في تدريس اللغة العربية لطلبة وطالبات المدارس والجامعات الذين يرغبون في تعلمها أو يتأهلون للتخصص فيها، وهو ما دفع السيدة فاليريا لإدراج كل حوارات (الثلاثية) ضمن منهج دراسات المجتمع العربي حين طلبوا منها المساعدة في اختيار أكثر المواد الأدبية تعبيرا عن الفكر الاجتماعي. إنها نصف ساعة «لا تقدر بثمن علي فضائية غير مشهورة وليست لديها مذيعون ومذيعات سوبر، ولكن اختياراتها غالبا ما تكون صائبة، سواء فيما تقدمه عن بلدها أو ما تقدمه عن هؤلاء الذين نتوجه إليهم بلغتهم، وليست (روسيا اليوم) فقط وإنما أيضا الفضائية الالمانية D.W التي قدمت مؤخرا حوارا مهما مع الناشر المصري ( محمد رشاد) رئيس اتحاد الناشرين المصريين الذي كان في ألمانيا لتسلم جائزة دولية مهمة، الحوار كان أكثر من رائع عن مصر والثورة والأدب والاجيال التي تواصلت عبر الكلمة في التعبير عن رفض مفاسد العهد السابق قبل أن يصل الأمر إلي الفعل.. أي الثورة، والرجل لم تحتف به أي فضائية مصرية، وكذلك نجيب محفوظ الذي لم يكن موضوعا لاحتفالية اعلامية جادة، خاصة بعد الهجوم السلفي عليه.. هل يدرك العالم الخارجي قيمة المبدعين بيننا أكثر منا؟