عنقي علي السكين يا وطني .... ولكني اغني ..... ويداي خلف الظهر مقيدتان ولكني اغني ..... انا لم اخنك فلا تخني ..... انا لم ابعك فلا تبعني ..... كان احمد يعشق سميح القاسم ومحمود درويش وامل دنقل ، ويحلم مثل كل رفاقه بالخبز والحرية والعدالة الاجتماعية ، ثمانية عشر يوما قضاها في ميدان التحرير منذ الخامس و العشرين من يناير الي ان سقط الفرعون ، غير ان ثمار الثورة تساقطت في" حجر" من يملك قبرا ...... ! 27 عاما هي عمر احمد فاروق حسين ابن مدينة ميت غمر حصل علي بكالوريوس التجارة وعمل في ديوان وزارة الماليه ، تزوج منذ ثلاث سنوات وانجب طفلا مازال يحبو في مقتبل عامه الثاني ، كان احمد عضوا بحزب التجمع ووالده امين مساعد للحزب بمحافظة الدقهلية ، تعلم منذ صغره ان يقف في خندق الفقراء والمهمشين في مصر ، وان يناضل من اجل حياة لهم تليق بالبشر ، كان متواجدا دائما في مظاهرات حركة كفاية وعضوا فاعلا في احتجاجات العمال وانتفاضات الفلاحين وكان يدرك ان الانسان الحقيقي هو من يتفاعل مع الاخرين وان يحاول قدر جهده وطاقته ان يخفف بعض معاناتهم وان يحقق بعض احلامهم فقد وضع احمد يده منذ البدايه علي افة المثقفين والتي تتمثل في الفجوة الفاصلة بين القول والفعل والحلم والواقع وبين ما هو كائن وما ينبغي ان يكون وان المثقف الحقيقي هو ذلك المناضل الذي يصنع جسرا للتواصل مع الاخرين ، يقول احمد في مفكرته " احلام الفقراء متواضعة مثل سقوف بيوتنا وعجبا لنظام يفشل في تلبية تلك المطالب " وكان اذا مر بطابور الخبز الطويل يقول هكذا يريدوننا دائما كالقطيع الذي يبحث عن " العلف " وكان يندهش من القابعين في بيوتهم خوفا من بطش السلطة ويعزفون عن المشاركة في الاحتجاجات فيقول لهم العمر هو المسافة ما بين نقطتي الولادة والموت وليس في مقدور احد ان ينتقص او يزيد عليها .....لذا فمن العار ان تعيش جبانا ......! النظام مستمر بعد ان تم اقصاء المخلوع ظن احمد مثل رفاقه ان ثورة 25 يناير قد نجحت وان الايام القادمة ستشهد تغيرا جذريا في مصر وان المجلس العسكري وحكومته سيقطعان خطوات كبيرة جدا علي طريق الديمقراطيه والعدالة الاجتماعية ، مرت الايام ولا شيء جديد فالنظام القديم كما هو لم يتغير والمفسدون في مواقعهم في المؤسسات الحكوميه وادرك احمد ان فاقد الشيء لايعطيه فاعضاء المجلس العسكري هم اعمدة النظام القديم يحملون كل امراضه وسلبياته من بطءفي اتخاذ القرار وعدم القدرة علي الابداع والمبادرة وليست لديهم روح الشباب الثائرة الوثابة والتواقة الي تحقيق المستحيل بدا الموقف عبثيا بين الاهداف والوسائل ، يقول احمد ..... اصبحنا كمن يريد ان يصطاد طائرة نفاثه وليس لديه سوي النبال او القذف بالحجارة ، لاحت الفجوة هائلة بين جيل من الشباب يستخدم تقنيات العصر في التواصل وبين جنرالات المجلس العسكري الذين ما زالوا يعيشون في كهف النظام القديم ويحاولون بما لديهم من قوة عسكرية واعلاميه . فرضه بما يتيح لهم المحافظة علي ما اكتسبوه من مصالح والخروج الامن باقل الخسائر ...! في التاسع عشر من نوفمبر راي احمد في ميدان التحرير اهم اهداف ثورة يناير وهي تداس تحت احذيه الجنود الثقيله ، الكرامة الانسانية يتم اغتيالها في وضح النهار امام انظار كل العالم . التتار يهجمون علي العشرات من مصابي الثورة واهالي الشهداء ويسحلونهم في الميدان ، يجرجرون فتاة من شعرها ويمسحون بها الاسفلت ، يضربون بكل ما لديهم من قوة كل من يقابلهم ، يسقط شهداء فيجرون جثة احدهم الي مقلب القمامة والابشع ان قام احد افراد الشرطة بضرب جثة الشهيد بعصا غليظه بعد موته ، حقد اسود يدفع رجال الشرطة الي التنكيل بمصابي واهالي شهداء الثورة بلا شفقة كان احمد في بيته حين راي تلك المشاهد علي شاشة التلفزيون بكي كما لم يبك في حياته من قبل احس ان كل تضحيات الشهدا قد ذهبت هباء وان الثورة قد ذبحت في ميدان التحرير بلا رحمة ارتدي ملابسه علي عجل ولم تفلح صيحات زوجته او صرخات طفله في اعادته الي البيت ، في ميدان التحرير التقي مع الرفاق ، وفي وسط الدخان والطلقات المطاطية والخرطوش طاردوا الشرطة بلا هوادة ومع المساء كان ميدان التحرير قد عاد للثوار معلنا عن بدء الموجة الثانية من ثورة يناير ....! الكعكة الحجرية عادت اجواء يناير من جديد وبعث امل دنقل ليلقي علي الثوار قصيدته " الكعكه الحجرية " غير ان احمد وقف بين رفاقه ليصرخ فيهم بقصيدة امل " لا تصالح " يقول احمد لم يعد هناك وقت لانصاف الحلول او مواقف " البين....بين " وان المجلس العسكري قد فشل في ادارته للفترة الانتقاليه فشلا ذريعا وعليه ان يرحل وصاح باعلي صوته " يسقط يسقط حكم العسكر " لتردد جنبات الميدان صيحات من رددوا صيحته .....! في ندوة اقامها حزب التجمع بميت غمر منذ شهرين عن مستقبل مصر بعد ثورة ينايرقال احمد فاروق حسين في كلمته " لست متفائلا بالمستقبل واشعر ان تضحيات شباب الثورة قد ذهبت سدي ، واصبح مستقبل مصر بين موقفين احلاهما مر ،اما ديكتاتورية عسكرية او فاشية دينية ومن المؤكد فان مصر تحتاج الي ثورة ثانية لازاحه هذا الكابوس الي الابد ، فلم يقدم الشهداء ارواحهم لنستبدل نظاما استبداديا بنظام اخر اكثر تسلطا ، والمتاسلمون الذين يتكلمون عن الديمقراطية الان هم من سينقلبون عليها بعد وصولهم الي سدة الحكم والاعجب ان تسمع اعضاء الجماعه الاسلاميه والذين لا يؤمنون سوي بالعنف والقتل يتكلمون عن سعيهم لتطبيق الشريعه الاسلاميه ونحن لسنا ضد الاسلام ولكن ضد التفسيرات المختلفة له والتي تصطبغ عادة بمصلحة المفسر فنصبح كمن يستبدل الفرعون باخر يظن نفسه ظل الله في الارض وتلك هي المصيبه لانه يظن نفسه يملك الحقيقة المطلقة وكذلك صكوك الايمان والتكفير.. في احداث ماسبيرو كان احمد بين المتظاهرين وكان يكره شعار الوحدة الوطنيه لان هذا الشعار يحمل في طياته ان هناك عنصرين متناقضين ومتصارعين وهو لا يؤمن سوي بالانسان المصري ايا كانت ديانته .....! الشخصية المصرية يقول احمد في مناظرة مع احد السلفيين شهدها حزب التجمع بميت غمر " الشخصيه المصريه شديدة التميز لانها مزيج من الحضارة الفرعونية والرومانية والقبطية والاسلامية ولا يمكن فصل عنصر عن عنصر اخر فالمسلم مسيحي بتاريخه والقبطي مسلم بعادته وتقاليده وثقافته لذلك فعندما تريد ان تفرض مفهومك للاسلام علي هذه الشخصيه فانك كمن تزرع نبتة في تربة غريبة عنها فما يصلح في السعودية وباكستان وايران وافغانستان لايصلح بالقطع هنا في مصر لان الشخصية المصرية هي شخصية وسطية ترفض التشدد كما انها شخصيه قادرة علي احتواء الغريب عنها وتحوله الي مصري الطابع ولا يمكن احتواءها فالاتراك واليونانيون الذين عاشوا في مصر اصبحوا مصريين ولم يستطع الاستعمار الانجليزي ان يؤثر علي الشخصيه المصريه برغم امتداده لاكثر من سبعين عاما في الوقت الذي تاثرت فيه شعوب المغرب العربي تاثيرا كبيرا بالمستعمر الفرنسي لذلك لم يكن غريبا ان يصبح الشعب المصري هو الشعب الوحيد الذي يؤمن بالمذهب السني في الوقت ذاته يجل ويحترم آل البيت واولياء الله الصالحين بل انه يوقر ايضا رجال الدين المسيحي ولا يجد غضاضه في الذهاب الي الكنائس ليطلب المساعدة لحل بعض المشاكل وخاصة المشاكل المرضية كما ان السيدة مريم العذراء لها مكانه خاصه في قلوب المسلمين المصريين ويظهر هذا جليا في مشاركتهم الاخوة المسحيين في الاحتفال عند ظهورها في الكنائس كان احمد يري ان المجلس العسكري قد ادخلنا عن عمد في دوامه هل تكون الدوله مدنية ام دينية واعاد مصر الي الوراء اكثر من قرن من الزمان ففي بدايات القرن العشرين تم حسم تلك القضية وتوارت في ضجيج تلك القضية اهم اهداف الثورة المصريه الا وهي العداله الاجتماعية وكان الاولي ان يكون النقاش حول افضل النظم للوصول الي هذا الهدف وهل يكون النظام القادم اشتراكيا يعمل علي تذويب الفوارق بين الطبقات وينشر مظلته الاجتماعية والصحية والتعليمية علي الجميع ام يكون نظاما راسماليا يعتمد اساسا علي سياسه السوق والعرض والطلب والغاء الدعم عن الفقراء واستكمال سياسة خصخصة شركات القطاع العام والاعمال تلك هي القضية الاهم والتي تمس حياة الناس مباشرة والتي حاول المجلس العسكري ان يبعدنا عنها والحقيقة فقد نجح". مرابط في الميدان منذ يوم التاسع عشر من نوفمبر وحتي الاربعاء الثالث والعشرين لم ينقطع احمد عن ميدان التحرير ، كانت الاهداف التي رفعها الثوار في الميدان هي رحيل المجلس العسكري وتشكيل مجلس رئاسي او حكومة انقاذ تكون قادرة علي ادارة المرحلة الانتقالية ، لم يندهش احمد من رفض الاخوان المسلمين المشاركة في المظاهرات لانه كان يتوقع ذلك فتاريخ جماعه الاخوان المسلمين يزخر بالمواقف التي لا تقيم وزنا للجماهير ، فمصلحتها هي الاهم ومصلحة الاخوان المسلمين الان ان تجري الانتخابات في موعدها حتي يحصدوا ماشاء لهم من مقاعد في مجلس الشعب ويسيطروا علي الحكم ويفرضوا دستورا جديدا يتواءم مع مصالحهم ومن اجل هذا الهدف ليس لديهم غضاضة ان يسقط المزيد من الشهداء من شباب مصر الذين اشعلوا الثورة والذين لولاهم لكان اعضاء الجماعة الان مطاردين من امن الدوله او خلف القضبان ، نسي الاخوان المسلمين تلك التضحيات ولهثوا خلف سراب خادع لن يمنحهم غير الاحتقار الشعبي والعار....! في يوم الاربعاء الثالث والعشرين من نوفمبر خرج احمد من عمله بوزارة المالية القريبة من ميدان التحرير وذهب الي شارع محمد محمود وانضم الي الرفاق شباب لا يمتلكون سوي الإراداة في مواجهة قوات الشرطة المدججة بالاسلحة والقنابل ، الشباب هم طليعة الثوار الذين اخذوا علي عاتقهم قطع الطريق ومنع وصول قوات الشرطة الي الميدان حتي لا تحدث مذبحه ، الاعلام الحكومي اخذ يبرر للشرطه استخدامها الوحشي للقوة واشاع ان هؤلاء الشباب يحاولون اقتحام مبني وزارة الداخلية ، اما المجلس العسكري فاخذ يشاهد المعركة علي مدي خمسة ايام متتاليه وكانها مباراة لكرة القدم بعدها اقام حواجز بين الثوار والشرطة ولكن بعد فوات الاوان فقد استخدمت الشرطه نوعا جديد من القنابل المسيلة للدموع لم يفلح معها الخل والكمامات بل ان معظم الشهداء سقطوا اختناقا ولم يسأل احد حتي اليوم من المسئول عن تلك الجريمة كان احمد ورفاقه يلقون الحجارة علي قوات الشرطه التي تطلق وابلا من القنابل ، شعر احمد بالاختناق حمله رفاقه الي المستشفي الميدان تحسن قليلا بعد اجراء الاسعافات الاولية فنصحه الاطباء بالذهاب الي البيت ليستريح عندما رن جرس الباب شعر باختناق شديد فتحت زوجته الباب فهالها ما راته العرق الغزير يغطي وجهه وسقط بين يديها من الاعياء الشديد صرخت مستغيثة بالجيران فنقلوه الي مستشفي هليوبليس ففاضت روحه الي السماء لم يمنحه الموت وقتا ليقبل طفله الصغير او يودع زوجته او يتصل بوالده ووالدته ليسمع صوتهما للمرة الاخيرة، هكذا رحل في هدوء مثل فرسان الاساطير ......! في اليوم التالي الخميس الموافق الرابع والعشرين من نوفمبر خرجت جماهير مدينة ميت غمر عن بكرة ابيها لتودع شهيدها وتطالب بالقصاص . امه تعيش مابين الاغماءة والافاقة وتسال لماذا وشقيقته الوحيدة لا تصدق حتي اليوم ان سندها ورفيق طفولتها ذهب ولن يعود ، والده فاروق حسين احد قيادات حزب التجمع يحاول ان يتماسك وقلبه ينزف دماء وحزنا، حين واريناه التراب كانت الذئاب تمرح في طرقات المدينة والثوار في الميدان يصدون الرصاص.