مناضلون يساريون عطية الصيرفي «2» «ولأن الفقراء لا يجدون سبيلا للشكوي سوي العرائض، وهي اختراع مصري منذ الثورة العرابية، فقد قررت أن أصبح عرضحالجي الفقراء أكتب لهم شكاواهم مجانا وأمنحها صياغات ملائمة وأوجه أصحابها إلي التحرك دفاعا عن مصالحهم، فطارت شهرتي في كل المنطقة وقالوا إن كلامي يحرك الحجر وكل صباح يتجمع الغلابة ومنذ بداية الخمسينيات وحتي الآن لكي أكتب لهم عرائضهم» عطية الصيرفي «في حواري معه». وتطور العرضحالجي إلي صاحب ما اشتهر في ميت غمر بما سماه «ديوان المظالم» وأمام بابه كان يحتشد كل يوم أصحاب الشكاوي وهو يكتب مستخدما أسلوبا ناريا يحرك الحجر، وكثيرا ما كان يحرك المسئولين فعلا، وتدريجيا يتحول العامل المشاغب إلي نقابي، يقول الشحات في حواره معي «وصل صيتي إلي الأسطي عبدالحميد جودة رئيس نقابة عمال النقل المشترك بالغربية، فاتصل بي وتتلمذت علي يديه فتعلمت أساليب التفاوض مع مكتب العمل ومع أصحاب الأعمال، ثم دفعني إلي دراسة القوانين والتشريعات العمالية، وعندما شعر أنني استوعبت ما علمني إياه رشحني عضوا بمجلس إدارة النقابة ونجحت، ويصعد الشحات سريعا ليصبح رئيسا لنقابة عمال شركة اتحاد الأوتوبيس بزفتي وميت غمر في 1950 ويسهم في تأسيس اتحاد نقابات عمال النقل المشترك ويكون أصغر عضو في مجلس إدارته، وتتفجر طاقات الشحات وتتضافر عوامل عديدة في صناعة هذا الكادر النقابي: حفظه للقرآن وقدرته علي الخطابة ودراسته لتشريعات العمل ووعيه الماركسي وبدأ في تأسيس عديد من النقابات نقابة عمال المعمار في ميت غمر، ونقابة معاصر الزيت ونقابة عمال الحليج، فوصفه مدير مكتب العمل بأنه مورد نقابات، ومنذ البداية أدرك عطية خطورة مرفق النقل فقام بتصعيد نضالات من العرائض إلي التفاوض إلي التحكيم إلي الإضراب البطيء ثم وصل إلي رفع دعوي فرض حراسة علي الشركة. وتأتي ثورة يوليو، وعندما يستعر الصراع بين أطرافها يلجأ عبدالناصر خلال هبة مارس 1954 إلي ذات السلاح فاستخدم عمال النقل بقيادة صاوي أحمد صاوي ودمر بهذا السلاح التوجه الديمقراطي ودعاته، لكن الجرح الدامي في قلب عطية الصيرفي يبقي دوما إعدام العاملين خميس والبقري، ويقدم لنا شهادة مثيرة للدهشة «بالمصادفة قابلت محمد نجيب في أواخر أيامه في مستشفي المعادي ولما سألته لماذا أعدمت خميس والبقري؟ قال إن السبب هو جمال عبدالناصر فقد أكد لي أن كل عمال المحلة وشبرا الخيمة وكفر الدوار شيوعيون فإذا لم نعدمهما فإن الشيوعيين سيقضون علي الثورة» ويمضي عطية قائلا في أحد كتبه «كان هذا الإعدام اغتيالا طويل الأمد للطبقة العاملة، وكان بمثابة رسالة إلي العمال والفلاحين بأن المشانق جاهزة لكل من ينطق، ويتطور عطية بمعارفه ويستخدم فترة السجن في الدراسة فإن منعت الكتب عاش أيامه في حوارات صاخبة مع كبار المفكرين من السجناء، وفي السجن يبدأ في إعداد أول كتاب له هو «دور العمال في المجتمع الاشتراكي» ويدخل به في إحدي المسابقات ويفوز بالجائزة وقدرها خمسون جنيها، لكنها جائزة معلقة علي شرط هو أن يشطب بعض الانتقادات الحادة ويرفض، فتسحب الجائزة. وتتواصل كتاباته لتحمل كتبه عناوين مشاغبة فمنها مثلا «نقاباتنا في خدمة السلطان» و«الطريق إلي ثورة الريف» و«اشتراكية أفندينا» و«العمال يواجهون المشانق نيابة عن الوطنية المصرية».. القرآن الذي لم يزل يحفظه عن ظهر قلب تحالف في وجدانه مع الماركسية فأثمر كتابات حادة كمشرط حاسم كطلقة رصاص، فاتنا أن نقول إن عطية خرج من السجن مفصولا، وطبعا لم يجد عملا فالجميع يعرفون شغبه وبقي متفرغا للعمل وسط الجماهير وكتابة عرائض المظلومين ويلتقط رزقه يوما بيوم من عمل هنا أو هناك، وفي ذات الوقت كان يمارس نضاله الحزبي لتصبح ميت غمر وما جاورها من قري قلعة للنضال العمالي والفلاحي، وإذ يأتي العدوان الثلاثي 1956 يصدر الحزب تعليمات بالتطوع لمواجهة المحتلين، القيادة الحزبية هو والشيخ محمد عراقي ومحمود مراد جمعوا مئات المتطوعين وسافروا إلي معسكر للتدريب في إحدي قري الشرقية الملاصقة لموقع الاحتلال، ولا ينسي عطية ثأر العمال مع صاوي أحمد صاوي الذي قاد مظاهرات تهتف تسقط الديمقراطية، تعقبه من لجنة نقابية إلي أخري علي نطاق القطر حتي نجح في إسقاطه ليكون عبرة لعملاء النظام، وفي فترة السجن الطويلة (1959 - 1964) كان التعذيب الوحشي في سجن أبوزعبل وكان الصمود البطولي وكان الدفاع الشجاع أمام المحكمة العسكرية العليا وكان السجن خمس سنوات أشغالا شاقة، تنتهي ليبقي معتقلا فقد رفض كغيره كتابة استنكار للشيوعية، وتتواصل زياراته المتكررة للسجن 1977 - 1979 - 1981 - 1990، الولد الشحات يكبر في السجن يصبح كهلا لكنه يبقي مشاغبا، وكان الشحات قد أتي إلي منبر اليسار منذ اليوم الأول ويخوض معنا كل معاركنا لكنه كان يصوغ كل عباراتنا بألفاظه المشاغبة، ويحكم عليه بالسجن عامين في قضية قذف لكننا نساعده علي الهرب إلي السودان حيث يبقي في أحضان الحزب الشقيق حتي نال براءته في الاستئناف، ومع الجماهير ناضل الشحات ورشح نفسه في المجلس المحلي ملأ المجلس شغبا، وحاول أن ينتزع من المجلس إدانة لكامب ديفيد وإذ يوشك أن ينجح يفصل من المجلس، ويرشح نفسه لعضوية مجلس الشعب وينجح فعليا لكن يد التزوير تسلب منه المقعد فتخرج جماهير ميت غمر الغاضبة لتقطع طريق ميت غمر - بنها وتصطدم مع البوليس في معركة دامية انتهت بالقبض عليه وعلي سبعمائة من المحتجين. ويبقي أن نقرر أن عطية الصيرفي هو أول من خاض وقاد معركة التعددية النقابية مؤكدا فساد الحركة النقابية الرسمية التي سماها «نقابات السلطان» ويظل الولد الشحات مناضلا مشاغبا في صفوف حزبنا، ويكون دوما صاحب أعلي الأصوات في كل موقع يترشح فيه، وأصبح في المؤتمر السادس الأخير عضوا في المكتب السياسي للحزب، ويبقي كما هو مؤكدا أكثر من مرة «الجماهير تمتلك قدرا من الغوغائية، فلنكن مثلها غوغائيين» ولعله كان علي حق. ويبقي عطية الصيرفي كما هو وذات يوم أرسل لي رسالة حب بدأها ببيت شعر سأعيش رغم الداء والأعياء كالنسر فوق القمة الشماء تحدثت معه تليفونيا قال: أنا ماشي فسألته علي فين؟ قال خلاص كده كفاية، ثم أوصاني «كن كما كنت دائما صدرك يفرش علي الفدان ولا تغضب من مهاجميك، وقلت له سمعا وطاعة، ورحل، وفي حفل تأبينه بالمنصورة وقفت لأودعه فبكيت ولم أكمل.