الجيش التركي هو الأكبر في حلف الأطلنطي بعد الجيش الأمريكي هذه أول مرة في تاريخ الشرق الاوسط وفي تاريخ اسرائيل تجد اسرائيل فيها نفسها في مواجهات حادة متزامنة مع القوي الاقليمية الثلاث التي تحيط بها من ثلاث جهات في المنطقة: مصر في الغرب وتركيا في الشمال وايران في الشرق. كانت اسرائيل قد حرصت منذ تأسيسها علي ان تتجنب هذا الوضع. فكانت تربطها بمصر منذ 32 عاما علاقات "طبيعية" فرضتها معاهدة كامب ديفيد وفرضها ولاء النظام السابق للتحالف الامريكي - الاسرائيلي. وكانت اسرائيل حريصة طوال السنوات منذ تأسيسها (1948) حتي سقوط نظام الشاه وولائه التام للتحالف نفسه (الامريكي - الاسرائيلي) بانطلاق الثورة الايرانية (1979) علي الابقاء علي علاقات "طبيعية" وقوية تقترب من نقطة التحالف الاستراتيجي والثقافي والدبلوماسي. كذلك فقد ارتبطت اسرائيل طوال السنوات نفسها بعلاقات تحالف استراتيجي (عسكري علي وجه التحديد) مع تركيا واكبها تعاون ثنائي في المجالات الاقتصادية والدبلوماسية والثقافية. وقد بدأت ايران بفسخ العلاقات مع اسرائيل منذ ايام الثورة الايرانية الاولي. واستمر هذا الوضع حتي الان ولا يزال مستمرا ولا تبدو له في الافق نهاية. اما تراجع العلاقات مع تركيا فإنه بدأ بشكل خاص بعد ان شنت اسرائيل حربها البشعة علي غزة. ونعرف جميعا بعد ذلك كيف تدهورت العلاقات التركية - الاسرائيلية بعد ذلك نتيجة لعدوان اسرائيل علي سفينة تركية حملت بموافقة الحكومة التركية مساعدات لغزة لاعانتها انسانيا علي مواجهة الحصار الاسرائيلي المفروض عليها. ومن الواضح انه لم يكن لعلاقات تركيا واسرائيل ان تتدهور الي هذا الحد لولا موقف سياسي مناهض لسياساتها اتخذته حكومة الطيب اردوغان التركية. اما العلاقات مع مصر فإن ثورة 25 يناير 2011 هي التي دفعتها باتجاه التراجع لولا ضغوط امريكية علي المجلس الاعلي للقوات المسلحة الذي تولي السلطة منذ سقوط نظام مبارك. ثم جاءت احداث سيناء لترتكب اسرائيل ما اعتادت ان ترتكبه ضد القوات المصرية دون ان تتعرض للوم من جانب نظام مبارك علي مدي الاعوام الثلاثين التي تولي فيها السلطة في مصر وطبق سياسة اقرب ما تكون الي تحالف استراتيجي ثلاثي ضم الولاياتالمتحدة واسرائيل ومصر. تغيرات ثورية وهكذا يمكننا ان نلاحظ ان اخطاء اسرائيل هي التي ادت بصورة مباشرة الي تراجع العلاقات مع كل من تركيا ومصر. اما في حالة ايران فإن حركة التاريخ كانت وحدها مسئولة عما جري من تراجع فرضته ثورة ايران. لكن لابد ان نلاحظ ايضا ان تغييرات ثورية في البلدان الشرق اوسطية الثلاث هي المسئولة اساسا وجوهريا عن هذه التحولات في الحالات الثلاث. بمعني انه لم يكن بيد اسرائيل خيار تستطيع به ان تحافظ علي العلاقات مع هذه البلدان الثلاثة. وقد خرج الامر من نطاق الارادة الاسرائيلية الي حد اصابها سياسيا بحالة من التوتر ادت في الايام الاخيرة الي التصريحات الخطيرة التي ادلي بها الجنرال ايال ايزنبرج قائد قيادة الجبهة الداخلية في الجيش الاسرائيلي (5 سبتمبر 2011) وحذر فيها من نشوب حرب اقليمية في منطقة الشرق الاوسط قد تستخدم فيها اسلحة الدمار الشامل. وقال الجنرال الاسرائيلي إن صراعا عسكريا واسعا قد يندلع في منطقة الشرق الاوسط اذا ما وصلت حدة الظروف الامنية الي درجتها القصوي. واهتم الجنرال ايزنبرج بأن يشير الي خطورة الموقف الامني علي الحدود الاسرائيلية مع الجبهة السورية ومع قطاع غزة وفي شبه جزيرة سيناء. وقد اثارت تصريحات القائد العسكري الاسرائيلي ضجة هائلة في اسرائيل واعتبر بعض الساسة الاسرائيليين ان هذه التصريحات انما تكشف اسرار التفكير العسكري الاسرائيلي ازاء الوضع الراهن في المنطقة لانها تنم عن اتجاه التفكير العسكري الاسرائيلي. وفضلا عن ذلك فإن مسئولين عسكريين اسرائيليين اعتبروا ان تصريحات الجنرال ايزنبرج انما تزيد من التوترات الاقليمية المحيطة باسرائيل. كذلك فإن هذه التطورات الاقليمية التي طرأت علي وضع اسرائيل في المنطقة ازدادت حدة باتجاه تركيا نحو توقيع اتفاق عسكري مع مصر اثناء زيارة رئيس الوزراء التركي اردوغان لمصر (12سبتمبر) الامر الذي يتطلب بطبيعة الحال تجميد الاتفاقات مع اسرائيل وهو ما بدأته تركيا بالفعل ضمن اجراءاتها التي اعقبت رفض اسرائيل الاعتذار عن هجمتها علي سفينة الحرية التركية التي اودت بحياة تسعة من المواطنين الاتراك. إيران النووية اما فيما يتعلق بايران فليس خافيا علي احد ان الاعوام الاخيرة شهدت تبادل التهديدات بينها وبين اسرائيل وبلغت التهديدات الاسرائيلية حدودا قصوي بدأ معها ان اسرائيل مصممة علي ضرب "الاهداف النووية" الايرانية سواء بمفردها او بالتعاون مع الولاياتالمتحدة. واخذت تهديدات اسرائيل لايران تتراجع تدريجيا لتحل محلها مطالبات اسرائيلية بأن تتولي الولاياتالمتحدة هذه المهمة اذا كانت جادة في رغبتها عدم السماح لايران بالتحول الي دولة نووية . ولم تلبث هذه المطالب الاسرائيلية ان تراجعت مع تراجع اهتمام الولاياتالمتحدة بالملف النووي الايراني فضلا عن تراجع حماس الادارة الامريكية والكونجرس الامريكي للتورط في حرب اخري مع اقوي بلدان الشرق الاوسط لحساب اسرائيل. وقد اظهرت التطورات الاخيرة ان تهديدات ايران لاسرائيل تكتسب طابعا اكثر حدة واشد جدية خاصة في ضوء تطورات عسكرية محددة من نوع دخول سفن حربية ايرانية واسرائيلية مياه البحر الاحمر في وقت واحد. كذلك في ضوء تطورات تكنولوجية بالغة الاهمية في ايران في مجال القوة الصاروخية المتوسطة والبعيدة المدي. وقد بدأ في الاونة الاخيرة ان القلق الامريكي- الاسرائيلي المشترك من هذه التطورات الاقليمية يتركز اكثر ما يتركز علي السياسات التركية وليس علي السياسات الايرانية. ابدت واشنطن قلقها بشكل خاص من الاحتمالات التي يمكن ان تسفر عنها زيارة رئيس الوزراء التركي للقاهرة. وقال متحدث باسم وزارة الخارجية الامريكية في هذا الصدد أن التوترات التركية - الاسرائيلية تقلق الرئيس الامريكي باراك اوباما. وقال ان واشنطن تزداد قلقا بشأن توجهات انقرة الخارجية لاسيما منذ صعود حزب العدالة والتنمية التركي الي الحكم وبالاخص منذ فوزه بفترة ثالثة في السلطة في انتخابات يونيو الماضي. ولا يخفي المسئولون الامريكيون قلقهم من ان تركيا - عضو حلف الاطلنطي تستغل كل مناسبة لاظهار استقلاليتها في سياساتها الخارجية. وهم لا يخفون ايضا ان احد اخطر اسباب هذا القلق من توجهات تركيا المناهضة لاسرائيل ترجع الي ان تركيا تملك اكبر جيش بين جيوش دول حلف الاطلنطي بعد الجيش الامريكي. في هذا الاطار يبدو موقف القاهرة اضعف المواقف الاقليمية الثلاثة بالمقارنة مع الموقف التركي والموقف الايراني. وليس خافيا بأي حال من الاحوال ان المواقف الشعبية من اسرائيل تبدو اكثر ثورية من مواقف المجلس الاعلي للقوات المسلحة فضلا عن موقف حكومة الدكتور عصام شرف. اذ يبدو بما لا يدع مجالا للشك ان رد الفعل الجماهيري في مصر ضد العدوان الاسرائيلي الذي اودي بحياة خمسة من العسكريين المصريين في سيناء بنيران قوات اسرائيلية اعتدت علي الاراضي المصرية في سيناء. فقد بدا رد الفعل الجماهيري المطالب بقطع العلاقات مع اسرائيل والمطالب في الوقت نفسه بالغاء معاهدة كامب ديفيد اكثر جدية واميل الي اجراءات من جانب مصر تضمن ان تكون اشارات الي جدية مصر في الاستجابة لمطالب الثورة باستعادة دور مصر ومركزها القومي والاقليمي. لكن الموقف الرسمي المصري كما استقرت عليه التصريحات الرسمية العسكرية بوجه خاص اصبح لا يتخطي حدود المطالبة بتعديل معاهدة كامب ديفيد بما يضمن زيادة اعداد وعدد القوات المصرية داخل سيناء. علي اي الاحوال فان التطورات الاقليمية تشهد بتدني تأثير اسرائيل الاستراتيجي والسياسي في المنطقة. هل تغامر اسرائيل بشن حرب في المنطقة لاستعادة مكانتها الاقليمية؟ لقد غامرت اسرائيل بشن حروب متعاقبة في المنطقة منذ ان حيدت مصر بمعاهدة كامب ديفيد، حروب ضد الفلسطينيين وضد لبنان. وبدا في اخطر تلك الحروب وهي حرب صيف عام 2006 ضد لبنان التي خاضها اساسا حزب الله ان اسرائيل لم تستطع الخروج منها منتصرة بشكل حاسم. فهل تستطيع اسرائيل ان تستخدم الحرب مرة اخري وسيلة لخلط الاوراق والملفات في المنطقة بعد ان خسرت التحالفات الاقليمية مع مصر وتركيا وايران؟ لعل اقصي ما تستطيعه اسرائيل في ظل الظروف الراهنة هو ان تبتعد بنفسها عن اي تطورات عنيفة في المنطقة، بينما تحاول ان تستخدم نفوذ امريكا في اخضاع ثورات المنطقة لسياسات تعترف باسرائيل، واذا امكن ان تهادنها.