قناة التنوير يحتدم الصراع بعد الثورة بين قوي التنوير والعقلانية والروح النقدية من جهة، وقوي الإسلام السياسي المعادية لكل هذه القيم التنويرية من جهة أخري وتحاول الأخيرة الاستيلاء علي ثورة 25 يناير وتحويلها إلي ما تدعي أنه ثورة إسلامية رغم أنها لم تلتحق بأعمال الثورة إلا في مرحلة تالية، وأيضا رغم الطابع الهجومي علي القوي الديمقراطية الذي طبع أداءها. والحاجة إلي الدفع بقيم التنوير والنقد وسلطان العقل إلي الأمام ليست مجرد حاجة ثقافة تهتم بها النخبة المثقفة، ولكنها حاجة اجتماعية وطنية تخص تقدم المجتمع كله ومستقبل ومصير الوطن وأهداف الثورة، ذلك أن مصر الحديثة الديمقراطية المتقدمة التي بدأت هذا المسار الجديد منذ قرنين كاملين من الزمان أصبحت عرضة لتحولات عاصفة في اتجاه ما تسميه بعض قوي الإسلام السياسي العودة إلي عصر السلف الصالح بهدف فرض قيمها واتجاهاتها الشكلية علي المجتمع كله رافضة مبدأ المواطنة من الأساس، فالمواطنون ليسوا إلا رعايا تخضع مصائرهم لرجال الدين أو الخليفة باعتبار هؤلاء جميعا مفوضين من الله سبحانه وتعالي للهيمنة علي البشر ومحاسبتهم وتوجيههم. وتستخف هذه القوي المحافظة التي ترتبط ارتباطا وثيقا بدول الخليج النفطية خاصة المملكة العربية السعودية التي رفع بعضهم أعلامها في ميدان التحرير - تستخف بالتراث المتراكم لقرني الحداثة والديمقراطية في مصر وكأنه لم يكن، ويخيل إليها أن القضاء عليه والبدء في صياغة تاريخ جديد للبلاد هي مهمة يمكن إنجازها بأموال الخليج وبالأفكار والقيم المعادية للديمقراطية والحداثة وحرية الاعتقاد والضمير مستغلة تشرذم القوي الديمقراطية وصراعاتها. وقصة تواطؤ حكم الاستبداد والفساد مع هذه القوي منذ بدأ الرئيس الأسبق «أنور السادات» مشروعة الذي سماه بناء دولة العلم والإيمان أشهر من أن نحكيها مجددا، فقد كان المشروع يبتغي «أسلمة» كل مظاهر الحياة في البلاد بينما تجري علي قدم وساق عملية إلحاق مصر اقتصاديا وسياسيا بالولايات المتحدةالأمريكية التي قال عنها السادات إنها تملك وحدها 99% من أوراق اللعب وأوراق حل القضية الوطنية وإنهاء احتلال الأراضي العربية وإقامة الدولة الفلسطينية، وهكذا تفككت تحت وطأة حكم «السادات» منظومة التحرر الوطني، وواصل «حسني مبارك» نفس الطريق سواء خارجيا أو داخليا. وعلي العكس مما كان ظاهرا أن نظام الحكم الذي تزاوجت فيه الثروة مع السلطة والفساد مع الاستبداد حين وقع الصدام مع قوي الإسلام السياسي باختلاف منابعها وتوجهاتها، فلم يكن هذا صراع أضداد وإنما صراع قوتين من منبع واحد وباختلاف الدرجة علي المصالح دون أن تكون هناك رؤي متناقضة لمستقبل الوطن. فقد استخدم نظام «مبارك» الدين علي نطاق واسع كما سبق لسلفه «السادات» أن فعل، ورغم طول مدة حكمه لم يطرح أبدا مشروعا جديدا سواء في التعليم أو الإعلام لإضاءة الجانبين العقلاني والتنويري في الثقافة العربية الإسلامية وإشاعته في المجتمع كما في المؤسسات التربوية، وانفتح الباب أمام ثقافة النفط والبترودولار وأفكار الوهابية المغلقة والقديمة لتجتاح البلاد وتستنزف قوي الديمقراطية في فضحها وتحليل أسسها في ظل القيود علي الحريات العامة. وفي هذا السياق جري الانقضاض علي قناة التنوير التي كانت في ظل قيادة الشاعر «ماجد يوسف» قد فتحت بابا للحوار العقلاني الديمقراطي بين كل القوي ولم تستثن أحد، وكان شعارها غير المعلن لندع مائة زهرة تتفتح، ومن ضمن أهدافها إضاءة التراث العقلاني الغني في الثقافة العربية الإسلامية الذي قامت القوي المحافظة والرجعية بتهميشه حين اختارت من التراث ما يخدم مصالحها وأفكارها المعادية للحرية والديمقراطية وللنساء علي نحو خاص. فهل يبادر الزميل «أسامة هيكل» وزير الإعلام الجديد بإعادة فتح قناة التنوير وتشغيل المعدين والفنيين والمذيعين الذين سبق أن حملوها علي أكتافهم بجدية شديدة رغم قسوة الظروف وشح الموارد إن إجابة «أسامة هيكل» علي هذا السؤال سوف تكون دليلا لا تخطئه العين علي حقيقة توجهاته فيما يخص تطوير منظومة إعلام الدولة خاصة أن حديثا يجري تداوله عن فتح قنوات جديدة.