وكلما أطلت علينا أي مناقشة حول الدستور تألقت بالضرورة المحكمة الدستورية العليا بقامتها ومهابتها وأحكامها. وتتألق أيضا مجلتها المحكمة الكتابة والأكثر تدقيقا في مراجعة النصوص الدستورية والقانونية، والأكثر قدرة علي اكتساب المصداقية في تحديد المواقف التي قد تصبح محل خلاف أو حتي محل تطبيق. ومع إطلالة ثورة 25 يناير يتهادي في وقار العدد التاسع عشر(السنة التاسعة- ابريل 2011) ليتضمن العديد من الدراسات الدستورية حول القضايا التي تزاحمت إثر الثورة، وفي إطارها وثمة عناوين للدراسات تتطلب من كل مهتم بالأمر مطالعتها بل دراستها دراسة متأنية. عناوين مثل «الثورة والدستور». قراءة في دساتير بعض الدول المتحولة إلي الديمقراطية - نحو دستور جديد يحمي الحريات ويوازن بين السلطات- الانعكاسات الدستورية لثورة 25 يناير وغيرها من الدراسات التي تتباري معا في أهميتها لفهم ما يجري حولنا. ونتأمل في البداية الدراسة الأولي المعنونة الثورة والدستور للمستشار ماهر سامي نائب رئيس المحكمة الدستورية ونقرأ فيها «إذا كان الدستور هو الوثيقة الأسمي التي تصوغ فيها ارادتها لتنظيم العلاقة بين السلطات وبين الحكام والمحكومين، فإنه ليست بالدساتير وحدها تحيا الشعوب، ولكنها تعيش وتقوي وتبقي بشعب واع يقظ يبعث الروح في نصوص الدستور ويسهر علي حراستها وحمايتها». وأيضا «أنه ليس يفيد أن تكون الوثيقة الدستورية قد اشتملت علي أعظم مبادئ حماية الحقوق والحريات دون أن تقترن بجزاءات مادية عند مخالفتها والإخلال بها، وتكتمل قوة الدستور وتفعيل نصوصه بقوانين ترتب عقوبات رادعة علي خرق أحكامه وإهدارها» (ص7) وهكذا فإن إذ نسترجع العلاقة بين النص الدستوري قبل ثورة 25 يناير والتطبيق العملي، حيث أهدرت العديد من المبادئ الدستورية نظرا لعدم تحصينها بنصوص قانونية رادعة. مثل مبدأ الفصل بين السلطات والحفاظ علي الحريات العامة وحرية الصحافة وأجهزة الإعلام وكذلك مبدأ حماية الوحدة الوطنية وحقوق العبادة والاعتقاد وحرمة الاديان وعدم جواز استخدام دور العبادة في غير تكريس العبادة. وقد حدث ولم يزل يحدث إخلال بمبادئ المساواة في حقوق التوظف وعدم التمييز فيها بسبب من الدين أو الجنس، ولم ينعكس علي هذا الإخلال أي أثر قانوني لغياب النص الذي يعاقب علي هذا الإخلال. بل إن أحداثا كثيرة تراكمت في الماضي ولم تزل تتوالي حتي الآن تحرم الإنسان من المثول أمام قاضيه الطبيعي، بل تحرم الإنسان من حقه في حماية جسده من أي عقاب بدني ويجري تجاهلها أو حتي التصالح ذا الطابع القبلي في كتم أنفاس أي رد فعل قانوني، وثمة دراسة أخري بعنوان «نحو دستور جديد يحمي الحريات ويوازن بين السلطات» للدكتور يسري محمد العصار، ولأن الإعلان الدستوري الصادر مؤخرا والذي حل محل دستور 1971 قد حافظ وبشكل شبه كامل علي مجمل السلطات التي حازها رئيس الجمهورية بل نقلها إلي المجلس الأعلي للقوات المسلحة ثم ستنقل لرئيس الجمهورية الذي سيجري انتخابه لاحقا ، وذلك حتي إصدار دستور جديد فقد الدكتور العصار علي التحذير من خطر وخطأ استجماع هذه السلطات والابقاء عليها وهي سلطات شاملة جامعة لكل نفوذ سواء في العلاقة بين الرئيس والسلطة التنفيذية إذ يتحكم فيها وفي أدائها كما يتحكم في السلطة التشريعية سواء فيما يتعلق بحق الاعتراض علي التشريعات التي تصدرها أو في حلها والدعوة لانتخابات جديدة. ثم «وفوق ذلك فإن رئيس الجمهورية هو القائد الأعلي للقوات المسلحة ورئيس المجلس الأعلي للهيئات القضائية والمجلس الأعلي للشرطة، وقد ساهم التطبيق السابق لهذه النصوص في توسيع نطاق الصلاحيات التي تمنحها للرئيس حتي أصبحت سلطات مطلقة لا تقابلها أي مسئولية سياسية »(ص22). وفي دراسة أخري بعنوان «حول التطور الدستوري المصاحب لثورة 25 يناير» يقدم المستشار د. محمد عمار النجار رئيس هيئة المفوضين بالمحكمة الدستورية العليا دراسة بالغة الأهمية حول أوضاعنا الدستورية الراهنة وحول الإعلان الدستوري الذي أصدره المجلس الأعلي للقوات المسلحة كبديل عن دستور 1971، ولعل أكثر ما يثير الدهشة في هذه الدراسة هو احصاؤها للنصوص التي تجاهلها الذين أعدوا الإعلان الدستوري رغم ورودها في دستور 1971. فقد تجاهل الإعلان الدستور نصا ليس فقط بالغ الأهمية وانما كان يحتاج إلي تعزيز وتفصيل محكم، وهو الذي كان واردا في م60 بدستور 1971 «الحفاظ علي الوحدة الوطنية واجب علي كل مواطن» ولعل كل ما يجري حولنا كان يفترض نصا واضحا وصريحا وحاسما لحماية الوحدة الوطنية ثم يلحق به قانون رادع لأي تجاوزات في هذا الشأن، ولعل من حقنا أن ندهش بل أن نشعر بما هو أكثر من الدهشة لشطب هذا المبدأ الأساسي والأكثر إلحاحا في الإعلان الدستوري. ثم هناك أيضا تجاهل النص علي واجب أداء الضرائب وهو المنصوص عليه في م61 في دستور71، هذا في الوقت الذي يصرخ فيه الكثيرون بضرورة ايجاد مخرج لتفادي التوازن الشديد الاختلال بين الفئات ذات الدخول العالية جدا جدا ومن ذوي الدخول المتدنية جدا أو التي لا تجد حتي دخلا منتظما مهما كان متدنيا. ثم هناك تجاهل الإعلان الدستوري للمادة 49 «تكفل الدولة للمواطنين حرية البحث العلمي والإبداع الأدبي والفني والثقافي وتوفر وسائل التشجيع اللازمة لتحقيق ذلك، ثم لم ينص الإعلان الدستوري علي الحق في مخاطبة السلطات بل إنه تجاهل النص صراحة علي مبدأ سيادة القانون وخضوع الدولة للقانون وغير ذلك من المبادئ المهمة م64 وم65 (ص31). ولعل من حقنا ودون أي تردد أن نتساءل لماذا تم التجاهل لهذه المبادئ بالذات الوحدة الوطنية - حرية البحث العلمي والإبداع الأدبي - سيادة القانون وخضوع الدولة للقانون. وهل لهذا التجاهل - سبب مضمر في ذهن وعقلية واضعي الإعلان الدستوري. وهذا سؤال مبرر تماما بعد كل ما كان من تداعيات ونصوص توحي بأن واضعي النصوص الدستورية والقانونية يمتلكون رؤية محددة يريدون تمريرها عبر نصوص أو تجاهل لنصوص ويستهدفون إفساح الطريق أمام تيار بعينه للسطو علي هذه الحقوق. فهل هذا صحيح؟ أم أن كل هذا التجاهل قد جاء عن سهو. ولكن هل يجوز السهو عند وضع المبادئ الدستورية؟ ولماذا يكون السهو في هذه المبادئ بالذات؟ ويتبقي بعد ذلك تقديم تحية واجبة لحصن العدالة المصري.. المحكمة الدستورية العليا.